هو صراع بين العلمانية والأصولية، وهو صراع ينطوى على تناقض حاد بحسب تعريفى لكل من العلمانية والأصولية، إذ العلمانية هى التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق، فى حين أن الأصولية هى التفكير فى النسبى بما هو مطلق وليس بما هو نسبى. والمفارقة هنا أن الصراع القائم الآن فى أمريكا يتناقض مع رؤية الآباء المؤسسين لهذه القارة، إذ كانت رؤيتهم علمانية. وقد بدأ هذا الصراع مع تأسيس منظمة أصولية اسمها الغالبية الأخلاقية بزعامة القس جيرى فولول. وكان مبرر هذا التأسيس مردوداً إلى فساد إدارة الرئيس نيكسون التى انتهت بفضيحة ووترجيت. ومن هنا جاء انتخاب الرئيس جيمى كارتر متسقاً مع فكر اليمين الدينى الذى كان قوة سياسية بلا منافسة لمدة ثلاثين عاماً. وقد تُركت سياسة كارتر الأصولية بلا مقاومة من قِبل العلمانيين الذين كانت حجتهم أن خلط كارتر الدين بالسياسة إنما هو مجرد لحظة عابرة فى تاريخ السياسة الأمريكية، إلا أن حجتهم كانت وهمية، إذ سرعان ما أيد جيرى فولول انتخاب رونالد ريجان فى عام 1980 لأنه كان أصولياً. وعندما بدأت «الغالبية الأخلاقية» تتوارى كان البديل منظمة أصولية أخرى بقيادة روبرتسون الذى اشتهر بأنه متحكم فى سبعين مليوناً من الناخبين. ومن أسباب هذا التحكم أن العلمانية لم تتحول إلى تيار بسبب تصور العلمانيين أن تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية يأتى فى الصدارة، وأنت بعد ذلك وما تشاء من أن تكون علمانياً أو أصولياً، وليس من حق أحد أن يدين الاختيارات الشخصية إلا إذا توهم أن من حقه التحكم فى هذه الاختيارات. ولم يتحرر العلمانيون من ذلك الوهم إلا عندما انتخب بوش الابن ، وأعلن صراحة أنه ضد النزعة العقلانية و مع ضرورة القضاء على العلمانية. وفى هذا السياق شاع الرأى القائل بأن أمريكا أمة مسيحية ، ومن ثم يتوارى القول بفصل الكنيسة عن الدولة. ولكى تكون على اقتناع بكارثة الأصولية فى أمريكا قارن بين خطابين لمرشحيْن لرئاسة أمريكا: خطاب جون كيندى فى عام 1960 وخطاب ميت رومنى فى عام 2008. قال كيندى: ليس ثمة مجال للدين فى السياسة. أنا أومن بأمريكا الخالية من السياسيين الذين يطلبون النصح فى القضايا العامة من البابا أو المجلس القومى للكنائس. ومعنى هذه العبارة أن كيندى يؤكد الفصل التام بين الكنيسة والدولة. أما رومنى فقد أظهر فى خطابه تعاطفاً مع اليمين الدينى، إذ ندد بالطابع العلمانى للمجتمع الأوروبى وبكل مَنْ يتصور أن الدين مسألة شخصية. وفى يناير 2009 قال الرئيس أوباما فى خطابه الذى ألقاه إثر انتخابه: نحن أمة من المسيحيين واليهود والهندوس والملحدين. وقد جاء ذكر لفظ .الكبرى، إذ توهم العلمانيون أن فى إمكانهم التأثير على سياسة أوباما فى حين أن أوباما كان مصمماً على تحويل دول كوكب الأرض إلى دول اسلامية تحت رعاية الخلافة الاسلامية. والمفارقة هنا أن هذا الذى يذهب إليه اليمين الدينى يتناقض مع الدستور الأمريكى الذى أصدره البرلمان بالاجماع فى عام 1797 وجاء فيه أن أمريكا ليست مؤسسة على الديانة المسيحية ولكنها مع ذلك ليست معادية لأى دين. وفى حالة القسم فإن الرئيس المنتخب يقول: أقسم بأن أكون أميناً فى تنفيذ مهام رئيس أمريكا، وأن أتفانى فى حماية الدستور والدفاع عنه. واللافت للانتباه هنا أن الآباء المؤسسين هم ورثة فلاسفة التنوير الأوروبى من أمثال هوبز ولوك وروسو وكانط . وعظمة هؤلاء الفلاسفة أنهم لم يؤلفوا على نمط واحد، إذ كان بينهم افتراق واتفاق، إلا أن الافتراق لم يكن إلا فى الفروع وليس فى الأصل. فقد كان هوبز يدعو إلى السلطة المطلقة للملك، ولوك يركز على الحرية الشخصية وحق الملكية، وروسو كان يدعو الدولة إلى عدم الفصل بين الدينى والسياسى، وكانط كان ينكر قدرة العقل على البرهنة على وجود الله أو عدم وجوده. ومع ذلك كله فقد كان الاتفاق بينهم أن التنوير محكوم بالعقل والتجربة والعلم. وهذا على الضد مما كان حادثاً فى العصور الوسطى من تحكم الكنيسة بقوانينها فى الحياة الدنيا والآخرة. وفى هذا السياق يمكن القول بأن التنوير هو أساس أمريكا، بل أساس ترسيخ التراث العلمانى. وأظن أنه مع انتخاب ترامب رئيساً لأمريكا فى 20 يناير من هذا العام وسقوط منافسته هيلارى كلينتون تكون الحضارة قد أُنقذت من تدميرها لأن سياستها متطابقة مع سياسة أوباما الأصولى المتواطئ مع الخلافة الاسلامية. إلا أن اللافت للانتباه أن ترامب لم يكن عضواً ناشطاً فى حزب المحافظين على الرغم من أنه كان مرشح ذلك الحزب. ولا أدل على ذلك مما جاء فى وكالة الأسوشيتدبرس للأنباء فى 20 من شهر مارس من أن ترامب تلقى دفعة معنوية قوية بنزول أنصاره إلى الشارع وذلك للمرة الأولى منذ تنصيبه رئيساً. والشارع هنا يعنى «رجل الشارع» علمانياً بحكم الضرورة بالرغم من غياب النخبة العلمانية والتى من المفترض أن تكون ناشطة فى الحزب الديمقراطى، والتى مع افتراض حضورها فإنها فى الحزب الديمقراطى المعادى لحزب ترامب. وأظن أن هذه المفارقة هى مفارقة القرن الحادى والعشرين. لمزيد من مقالات مراد وهبة;