على منوال مدينته الأولي، ذات الطابع العالمى المتعدد، نسج ثقافته الثرية، المفعمة بالتنوع كالإسكندرية، إذ ولد مع بداية الثلث الثانى للقرن العشرين (1933)، وكانت لا تزال فى أوج أبهتها. كما عاش شبابه المبكر فى قلب الحقبة الليبرالية، ومصر لا تزال حاضنة ثقافية كبيرة، تستقبل أفكارا حديثة مستنيرة لا دروشات سلفية ماضوية، بلدا عفيا يضمن لقمة العيش لأبنائه ويجود على جيرانه بما يفيض منه وليس طاردا لهم إلى ساحات العراء ومراكب الموت. أنهى دراسته الحقوقية، والتحق بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية بالقاهرة، الذى ابتعثه إلى فرنسا لنيل درجة الدكتوراه. ومثلما فعل توفيق الحكيم قبله بثلاثة عقود، أعلن تمرده على الشهادة العلمية ذات التخصص الضيق ولو كانت من باريس، بلد الجن والملائكة، وأخذ يتجول فى دروب المعارف المختلفة، متأثرا بسلفه، ومتأهبا لدوره الذى دفعته الأقدار إليه، عندما لبى نداء الأهرام، نداهة الوعى التى كثيرا ما فاقت نداهة يوسف إدريس التى لا يرد لها أمر. يندرج فارسنا الراحل فى سياق كبار كثر أطلوا من نافذة الأهرام العالية، وكتبوا على صفحاتها ناشرين الاستنارة فى أربع أنحاء الأمة العربية، علامات ورموز تركوا البصمة واضحة والأثر نافذا، ولكن مع ميزة خاصة لم يتمتع بها قبله سوى يوسف إدريس، كونه من صناعة الأهرام الذاتية، ابنا أصيلا لها وليس ضيفا عليها، يوم كانت لا تزال شاهدة على عصرها، بل صانعة له فى بعض الأحوال، كما كان الأمر فى ستينيات القرن المنصرم، حينما قادت مصر حركة التحرر العربى. عبر الرجل إلى الأهرام من بوابة مركز دراسات الصهيونية وإسرائيل عقب هزيمة 1967م، لكنه سرعان ما صار المؤسس الفعلى لما سوف يعرفه الناس مركزا رائدا "للدراسات السياسية والإستراتيجية" ثم المدير الرسمى له طيلة عقدين من الزمن (1975 1994)، شهدا صدور التقرير الاستراتيجى العربى كمطبوعة راقية فى دراسة النظام الدولى والإقليمى والمحلي، قبل أن يترجل من موقعه الإداري، مكتفيا بالإسهام الفكرى عبر مقال الخميس، الذى لم يتوقف طيلة ثلاثة وعشرين عاما وحتى أواخر فبراير الماضى. فى كتابه الأثير لديه، ولدى أيضا (الشخصية العربية بين صورة الذات ومفهوم الآخر) قدم إسهاما يذكر فى موجة نقد الفكر العربى عقب هزيمة يونيو، التى كان افتتحها عبد الله العروى من المغرب بكتابه الأشهر (الأيديولوجيا العربية المعاصرة" وواصلها صادق جلال العظم فى كتابه "نقد الفكر الدينى) ثم زكى نجيب محمود فى نحو عشرين مؤلفا كاملة تنضوى جميعها تحت العنوان الرائق للكتاب الأول منها (تجديد الفكر العربى)، ومحمد عابد الجابرى فى مشروعه الأثير (نقد العقل العربى) بأجزائه الأربعة (التكوين، البنية، العقل السياسي، العقل الأخلاقي)، وأخيرا حسن حنفى فى أطروحاته المتعددة حول التراث والتجديد. وتطبيقا عمليا لرؤيته النقدية، من أرضية وعى قومي، يؤمن بالعروبة الثقافية رافضا تحويلها إلى أيديولوجيا راديكالية يتقاتل العرب بقوة دفعها، بدلا من أن يلتفوا حول منبع إلهامها، رأس الرجل لعدة سنوات منتدى الفكر العربى بالعاصمة الأردنية عمان. إنه الأستاذ الكبير السيد يسين، الذى فقدت برحيله مرآة عقلية كنت أرى فيها مشواري، ومحاورا فذا طالما اشتبكت معه وتمردت عليه وغضبت منه، وفى كل مرة كان يحنو، ويسأل، ويصالح برفق نسيم لم يحرم منه كثيرين غيرى نالوا تشجيعه وحدبه، واستمتعوا بتواصله ودعمه على عكس آخرين محسوبين على الكبار لم يروا فى الدنيا إلا أنفسهم، ظنا أنهم سوف يصيرون أكبر عندما يتجاهلون غيرهم. كنت أخجل منه عندما يسألنى هل قرأت مقالة اليوم، ولم أكن قد فعلت بعد حيث أنام فى العادة فجرا وأستيقظ ظهرا، بينما يوقظنى أحيانا من نومى ليناقشنى فى مقال الثلاثاء، ومازلت أذكر كيف أصر يوما على أن أذهب إليه فورا لنتناقش مع فنجان قهوة حول مقال نشر صبيحتها عن مفهوم «الرزق» الطازج وما يميزه عن مفهوم الدخل العقيم، رآه هو، بروح متواضعة وعقل واثق، مبدعا فى رصد أزمة المعنى الإنساني. ومازلت أذكر دهشته المتسائلة: كيف أتتك الفكرة، وكيف تبلورت، ناهيك عن سؤاله الدائم عما أقرأه أو أكتبه. أما فضله الكبير فتمثل فى إلحاحه على لممارسة البحث العلمى بالمعنى المعروف، فقد كنت أقرأ كثيرا دون تنظيم، لا أدون ملاحظات تسمح بالاقتباس أو التوثيق العلمى، بل كتبت مؤلفاتى الأولى اعتمادا على التأمل النظرى والعصف الذهنى الشديد فى النصف الثانى من الليل، وهو أمر لم يكن يعجبه، بل كان يتهمنى بأننى أعيش وأكتب كفيلسوف بوهيمي، وأنا لا أزال فى نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات، من دون خبرات بحثية عميقة، وهو ما لا يمكن ولا يجوز . وإزاء إصرارى على نهجى خاصمنى لفترة طويلة كى أغير موقفى وهو ما لم يحدث إلا حينما بدأت دراسة شاملة لعموم الأديان، وقد أسعده ذلك كثيرا، خصوصا عندما نشرت كتابى (اللاهوت التاريخى)، الذى لم يكن ممكنا الخوض فيه إلا بعد اطلاع واسع استمر لست سنوات كاملة، تعلمت خلالها الكثير، واقتربت من عمق التجربة الإنسانية بكل ثرائها، وأدركت عندها كم كان الرجل مصيبا وكنت مخطئا. ولعل هذا هو درب الكبار، الذين لا نعلم قدر قيمتهم إلا عندما يرحلون عن دنيانا، ولكنهم قطعا لم يخرجوا من قلوبنا ولن يفارقوا عقولنا. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;