كيلومترات معدودة تفصل بين مكان انعقاد القمة العربية الدورية الثامنة والعشرين غداً الأربعاء (29/3/2017) وبؤر الالتهاب العربية الكبرى الثلاث فى فلسطينوسورياوالعراق. فى هذه القمة التى ستعقد فى أخفض نقطة على وجه الكرة الأرضة على ضفاف البحر الميت بالقرب من العاصمة الأردنية عمّان لن يكون ميسراً هروب القادة العرب من مواجهة الواقع بحقائقه الأليمة فى هذه الأزمات الثلاث، إما بواقع القرب الجغرافى وإما بخطورة التصعيد غير المسبوق فى مجريات تطور هذه الأزمات. لن يكون مقبولاً أن يلتقى القادة، كما هى العادة، لقاءات بروتوكولية، يصدرون بعدها بياناً أو إعلاناً يمرون من خلاله مرور الكرام على هذه الأزمات وغيرها من القضايا العربية المأزومة، مكتفين بالإدانة والتنديد لكل ما يحدث أو مناشدة من يهمهم الأمر، فلن يقبل أحد منهم إدانات، ولن يستمع أحد إلى مناشداتهم، فالحد الأدنى المطلوب هو التحرك الفعّال والمدروس، وأمامهم العديد من الاجتهادات التى من أبرزها مخرجات المبادرة التى أطلقها بمناسبة انعقاد تلك القمة «مركز دراسات الشرق الأوسط» الأردنى بمشاركة عدد من المفكرين من أقطار عربية متعددة بعنوان «مبادرة تطوير علاقات العرب الدولية- 2017» والتى اتسعت فى الواقع لتشمل مجالات عمل واسعة شديدة الأهمية من أبرزها: «القيام بمصالحات وطنية (داخل الدول)، وقومية (بين الدول) تنهى حالات الاحتراب والاستنزاف، وتعيد تحقيق الوحدة الوطنية والتضامن العربى الرسمى والشعبي، وبناء رؤية موحدة لتحقيق التعاون والتنمية والتكامل العربى على مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية والعلمية لبناء القوة العربية المنافسة دولياً، مع السعى لبلورة التطورات اللازمة لطبيعة العلاقات العربية الخارجية بما يحقق الأهداف المشتركة، وفق رؤية موحدة إزاء مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية العربية وعلى الصعيدين الإقليمى والدولي». مثل هذه الأفكار وأفكار أخرى كثيرة رغم أهميتها تبقى أفكاراً تقليدية «من داخل الصندوق» لا تملك من الجسارة ما يكفى لتحقيق اختراق حقيقى فى منظومة العمل المشترك الذى أضحى ضرورياً، بل وحتمياً، فى ظل التحديات الخطيرة التى تواجه الأمة كلها، ابتداءً من الحروب التى تستهدف تدمير الدول وإسقاطها وإعادة تقسيمها، وفى ظل محاولات تفكيك الرابطة العربية والانحراف بمجريات الصراع مع العدو الصهيوني، وطمس الهوية القومية العربية للأمة من خلال الدعوة إلى تحالفات واستقطابات جديدة على أسس طائفية تجعل الكيان الصهيونى طرفاً بارزاً فى إدارتها، ناهيك عن الانحدارات التى تحدث فى مجرى تسوية الأزمة العراقية بعد الانتهاء من تحرير الموصل والتى توحى بأن صورة العراق ما بعد هزيمة «داعش» ستكون «ملبدة جداً ومقلقة جداً» على ضوء تفجر معارك واستحقاقات العلاقات بين جميع مكونات المجتمع العراقى إضافة إلى عودة الصراع الأمريكى الإيرانى فى العراق زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو إلى موسكو (9/3/2017) كانت تستهدف فرض «خطوط إسرائيلية حمراء» أمام القيادة الروسية بخصوص مستقبل سوريا هدفها جعل إسرائيل طرفاً فاعلاً وشريكاً فى تحديد معالم هذا المستقبل كان من أبرزها رفض إقامة قاعدة عسكرية بحرية إيرانية بالقرب من اللاذقية قد تؤدى إلى تعزيز قوة «حزب الله»، وتقصير مدى الرماية الصاروخية الإيرانية باتجاه إسرائيل، ومنع إيران وحزب الله من تأسيس جبهة مواجهة عسكرية مع إسرائيل فى هضبة الجولان على غرار جنوبلبنان. هذه الزيارة كان محركها الأساسى هو إدراك إسرائيلى مفاده أن الأزمة السورية دخلت مرحلة «تقسيم الغنائم» وآن الأوان لإسرائيل، أن تحصل على نصيبها. فشل هذه الزيارة كانت، إلى جانب تطورات أخرى، وراء الغارة الإسرائيلية على مطار عسكرى سورى بالقرب من مدينة تدمر (17/3/2017) تحت غطاء منع نقل أسلحة إلى «حزب الله» مما أدى إلى تصاعد التوتر بعد هذا الهجوم الذى تحول إلى ورطة إسرائيلية أثر تصدى الدفاعات الجوية السورية لأول مرة للطائرات الإسرائيلية وإسقاطها طائرة استطلاع إسرائيلية بالقرب من القنيطرة، وإعلان إسرائيل أنها أطلقت صاروخاً من منظومة «أرو» خلال غاراتها الأخيرة على أهداف داخل سوريا بهدف إحباط قصف صاروخ باليستى سورى كاد يضرب مناطق سكنية. تطور جديد وخطير يحدث فى الأزمة السورية يكشف حسب تأكيدات «اليكس فيشمان» المعلق العسكرى لصحيفة «يديعوت أحرونوت» أن إسرائيل «باتت تهاجم فى سوريا ليس فقط كى تمنع قوافل السلاح الإيرانى إلى حزب الله. فإسرائيل تستعرض حضوراً فى سوريا وذلك أيضاً كى توضح للروس أساساً: لن تحدث أى تسوية فى سوريا دون إسرائيل». الأخطر هو التوجه الإسرائيلى لتوظيف القضية الفلسطينية لإعادة دمج إسرائيل مع أطراف عربية فى تحالف إقليمى جديد على نحو ما كشف الكاتب الإسرائيلى «عوديد تيرا» لفرض حل إسرائيلى «غير تقليدى» للقضية الفلسطينية عبر تأسيس «كونفيدرالية إسرائيلية أردنية فلسطينية» يمكن من خلالها وضع نهاية لخيار «حل الدولتين» من ناحية، وتقود بالتبعية، من ناحية أخرى، إلى تأسيس تحالف إقليمى جديد يضم إسرائيل ضمن هذه الكونفيدرالية مع أطراف «سنية معتدلة» لمحاربة الخطر النووى والأطماع التوسعية الإيرانية والتصدى للإرهاب بأنواعه. مثل هذه الأفكار الإسرائيلية «غير التقليدية». تفرض على القمة العربية أن تفكر «من خارج الصندوق» التقليدى وتطرح رؤى واضحة وصريحة لمواجهة الأزمات أبرزها رفض سياسة المحاور والأحلاف ورفض الانحراف بمجرى الصراع التاريخى مع الكيان الصهيوني، والحفاظ على وحدة النظام العربى ووحدة وتماسك الدول العربية والهوية القومية الحضارية للأمة العربية، والتوصل إلى مقاربات لإدارة العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية على قاعدة التقارب أو التباعد مع المصالح القومية العربية. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;