تتعزز قيمة البحث العلمى بقدرته على الإضافة، باعتداده بالمنهج، بتخلصه من الإنشاء الكاذب، ومن ثم يعتمد البحث فى جدارته العلمية على موضوعيته وجدته وجديته. وعبر هذا الفهم لطبيعة البحث العلمى الرصين يمكننا أن نفهم المحاولات الجادة للناقد والأكاديمى المغربى الدكتور محمد مشبال، الذى قدم عددا من المؤلفات المهمة من بينها: الهوى المصرى فى خيال المغاربة، البلاغة والنادرة، البلاغة والأصول، البلاغة والسرد: جدل التخييل والحجاج فى أخبار الجاحظ، وغيرها، غير أن كتابه «خطاب الأخلاق والهوية.. قراءة فى رسائل الجاحظ.. دراسة بلاغية حجاجية» يعد كاشفا عن جوهر مشروعه البحثى من جهة، وعن نزوع مغاير فى قراءة النص التراثى القديم من جهة ثانية. فثمة إعادة قراءة للتراث الأدبى العربى عبر زوايا نظر بلاغية تستقى طروحات البلاغة الجديدة وعلم النص بالأساس، وتعتمد على تفعيل المنطق الحجاجى والاستراتيجيات الحجاجية فى النفاذ إلى جوهر النص النثرى العربى القديم، ومن هنا تأتى أهمية الصنيع العلمى الذى يقدمه محمد مشبال، الذى لاحظ انحسار المعنى البلاغى عن النص النثرى القديم، وانسحابه صوب الشعر دائما، ومن ثم يأتى التصدير الدال الذى يقدم به كتابه، فيحيل إلى الناقد المصرى الفذ الدكتور شكرى عياد فى مقطع ممهد ومعضد للفكرة التى يتوخاها الناقد المغربي، تبدو الإحالة على شكرى عياد ذات مدلول آخر فى الدرس الأكاديمي، يعرفه كل من يدرك فكرة العلم وجوهره. فهو أحد أهم العلماء الثقات الذين لم يغرهم ألق كاذب ولا وهج مزيف. وللكشف عن مكونات هذا النص النثرى القديم لا يلجأ محمد مشبال لاختبار آليات قديمة، ولا وصفات جاهزة، وإنما ينفذ عبر إجراءات نقدية ومنهجية صارمة تستعين بآليات تحليل الخطاب، وعيا بالتراكم النظرى الذى خلفته نظرية الحجاج بتمثيلاتها النظرية فى العالم، وأطرها الجمالية وتشكلاتها فى النص العربي، مقدما مقاربة بلاغية حجاجية رفيعة ورصينة فى آن، ويكفى أن أشير فى التطبيق النقدى إلى التحليل العلمى الضافى إلى رسالة القيان: «من الآفة عشق القيان»، حيث يتخذ الإجراء النقدى ثلاثة محاور: «الملفوظ الوصفى / الحجة الرئيسية/ الحجج المكملة». ينقسم كتاب «خطاب الأخلاق والهوية.. قراءة فى رسائل الجاحظ. مقاربة بلاغية حجاجية» إلى ثلاثة أقسام مركزية، يمثل القسم الأول مهادا نظريا وافيا ومنهجيا، أى أنه يعد جوهرا للتحليل النقدى الذى جاء فى القسمين الثانى والثالث، ففى القسم الأول، سنجد بلاغة النص النثرى العربى القديم/ المكونات والمبادئ، وسنقف على ماهية الرسالة، وهل هى نوع أدبى خاص؟ خاصة مع فكرة التراسل الموجودة بين الأنواع الأدبية وتداخل الأجناس، ومن ثم سنجد تقسيمات دالة فى الكتاب وتأطيرا نظريا وجماليا لكل منها: «الرسالة- المناظرة/ الرسالة- المفاخرة/ الرسالة- الوصية». وجوهر هذا القسم يكمن فى النفاذ إلى أن ثمة بلاغة خاصة ترتبط بالنوع ذاته، ومن ثم تختلف عن البلاغة العامة التى يمكن تعميمها على كافة الخطابات والاستفادة منها فى تحليل كافة النصوص، غير أنها تظل غير قادرة على ملامسة العصب العارى للنصوص، وربما هذا عين ما يطرحه ويتوخاه أنصار البلاغة الجديدة وعلم النص بشكل عام. لكن محمد مشبال يذهب بالشوط إلى مدى أكثر دقة فى الحقيقة حين يحيل إلى فكرة البلاغة النوعية فى مقابل البلاغة العامة، حتى لو اتكأ فى طرحه النظرى على تصورات مستقرة فى المركز الأوروبى والفرنسى تحديدا فى إنتاج الأفكار، غير أنه «يعضون» هذا التصور فى بيئة النقد العربي، مدركا سياقه الجديد، ووسطه البيئى الذى يخرج فيه، والأهم أنه لم يزل يصغى إلى صوت النص، فعلى الرغم من هذه المعرفة النظرية التى يتمتع بها الباحث إلا أنه لم يغرق فى التحليل النقدى فى إيراد المصطلحات، وسوق الرطان النظرى الخالى من المعنى، بل اتجه صوب الخطابات/ رسائل الجاحظ محل التطبيق، معملا قراءته النقدية. ويبدو مشبال واعيا بالعطاء النظرى للناقد والمفكر الكبير ميخائيل باختين، ويطوعه فى متن طروحاته، فيحضر باختين فى الحديث عن الحوارية، وتحديدا «شعرية ديستوفيسكي»، وإجمالا الحوارية فى تصورات باختين سواء فى "الماركسية وفلسفة اللغة" أو في"شعرية ديستوفيسكي" تعنى أن كل خطاب ينبع أو ينبثق فى عالم من الخطابات القائمة بالفعل أو التى يمكن أن تقوم، ومن ثم يبنى المتكلم خطابه إما بالرد على خطابات قائمة/ محددة، أو محتملة / غير محددة بتفنيدها وتقويضها، أو تأكيدها واتخاذها سندا، وإما باستباق أجوبة واعتراضات محتملة. وكل فكرة يسوقها المتكلم هى ذات طابع حوارى فى أعماقها موشاة بالجدل، ومفعمة بروح الخصام. ويخلص مشبال إلى أن فكرة الحجاج ليس من شروطها المركزية أن تنهض على تصادم الخطابات، وهذه فكرة لامعة، وتفتح أفق بلاغة الخطاب على مصراعيه. وفى القسمين الثانى والثالث يلوح المنحى التطبيقى والذى يعد بلورة لجماع الأفكار النظرية فى القسم الأول، ويأتى التقسيم لخطابى الأخلاق والهوية مستقى من النصوص/ الرسائل ذاتها، بحيث يأتى كل قسم ليبلور خيطا جامعا بين رسائل الجاحظ، وفى كل تحليل هناك إجراءات صارمة واضحة المعالم يمكن إمساكها، ومن ثم النفاذ من خلالها إلى جوهر الخطاب/ رسائل الجاحظ، من قبيل: صورة المحتجب والحاجب كما صورها الشعراء والتحليل القائم على بلاغة الحجاج. يختص موضوع الهوية بسياق محدد تحدده مادة الدراسة وطبيعتها، فتبرز رسائل الجاحظ بزمانها المرجعي، ودفاعها المستميت عن الثقافة العربية فى مواجهة المد الفارسى آنذاك، ومن ثم لا يمكن تفعيل آليات نقد النقد فيما يتعلق بالقسم الثالث من الكتاب بمعزل عن زمانه المرجعي، وسياقاته السياسية والثقافية أيضا. وبعد.. عبر تصور نظرى رصين، ودرس علمى رفيع، يقدم الباحث الدءوب محمد مشبال كتابا يمثل إنجازا كيفيا لمتن الطروحات الجديدة حول بلاغة الحجاج، منتصرا للبلاغة الجديدة، وواعيا بجدل التراث والحداثة، وتجلياتهما فى الدرس النقدي، طارحا تصورات نظرية محددة، لها إمكانية التطبيق عبر إجراءات نقدية واضحة، ومن ثم أصبحنا أمام مراكمة نوعية لا للمنجز العلمى للباحث فحسب، ولكن لمنجز الدرس البلاغى والنقدى العربى المعاصر. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;