كل المصريين هم جماهير الرئيس عبد الفتاح السيسي. وهو واحد منهم انتخبوه بكامل إرادتهم، ونزلوا للشوارع يطلبون منه أن يترشح. وعندما نزلوا كانوا بالملايين. وسجلوا أضخم مظاهرات عرفتها مصر فى عصرها الحديث. لكن تبقى بعض فئات المجتمع التى يفكر الرئيس كثيراً فيها ويوليها اهتمامه. وليس معنى هذا أن الفئات الأخرى قد لا تحظى باهتمامه. فالمصريون سواء أمامه كأسنان المشط لا يفرق بينهم. فى الاحتفال البديع والجميل والذى لا حد لجماله، والذى أقامته رئاسة الجمهورية للاحتفال بالمرأة، وإعطاء إشارة البدء باعتبار 2017 عام المرأة. أقيم فى فندق الماسة يوم الثلاثاء الماضي، توقفت أمام دلالات جميلة، وما أندر الأشياء الجميلة التى يفاجأ بها الإنسان فى أيامنا. كنت النائب الوحيد من أعضاء مجلس النواب وسط 90 نائبة، هن نائبات مجلس النواب، جلست وسطهن وأنا أستحضر العبارة التى استفتح بها نجيب محفوظ روايته القصيرة: أهل القمة. عندما يعود المأمور لمنزله – لعب دوره عزت العلايلى – ويجلس إلى المائدة لتناول الغداء، ويتأمل من حوله ويقول ولكن لنفسه: إنها جمهورية من النساء. كان الحضور النسائى طاغياً فى الحفل، والحضور الرجالى قليلاً بل كان متراجعاً. وهذا مطلوب، فهو يوم للمرأة المصرية. وعندما وقف الرئيس السيسى ليلقى خطابه فى الاحتفال، تصرف ببساطة وإنسانية، ونسى أنه الرئيس، فلحظة صعوده للمسرح سمعنا من يقول السلام الوطني. فوقف الرئيس وضحك وقال إنه يريد أن يلقى كلمته. بمعنى أن الرجل لم يشخط أو ينتر أو يتوقف أمام ما جرى باعتباره خطأ يصل لحدود الجريمة وطالب بإيقاع اقصى العقوبة وأقساها على من تسبب فى الخطأ. خلال كلمة الرئيس فوجئت بعدد كبير من الحاضرات يقاطعنه، وبعضهن قالت قصائد شعرية مرتجلة طويلة، والبعض الآخر عبّرن عن رغبتهن فى السلام عليه. والتقاط الصور معه، وهذا الحوار التلقائى الذى يعلن إنسانية اللقاء، وأنه خرج عن إطار العلاقة المؤطرة بين الرئيس والجماهير والحاكم والمحكوم. ونظر إلى عبد الفتاح السيسى باعتباره واحدا منا، نحن الذين اخترناه وكلفناه بأن يقوم بالدور الذى يقوم به. أنا مش كمالة عدد ولا صفر على الشمال. هذا ما غنت به أنغام فى أغنية يبدو أنها أعدت خصيصاً للحفل. والجديد الذى أعجبنى أنها لم يصاحبها تخت ولا فرقة موسيقية، ولم يقف وراءها صف من الكورال، نصفه من النساء ونصفه الآخر من الرجال. لكن كان هناك على هامش المسرح بيانو عليه عازف واحد، وهى غنت، حيث اعتبر صوتها بطل الفقرة. ووصل أداء أنغام لدرجة غير مسبوقة. باعرف حقي وباعرف واجبي ومفيش حد أحسن من حد هذا ما سمعه الإنسان فى إطار الغناء الجديد الذى لا يعتمد على التطريب، ولا حلاوة الصوت، بقدر ما يعتمد على عمق المعنى الذى يقدمه لمن يستمع إليه. وهى مرحلة جديدة يمكن أن تخرجنا من الطرب الشرقى القديم والأصيل. رغم أننى لا يعجبنى إلا الطرب القديم ولا يهتز وجدانى إلا عند سماعه. ولكن التجديد من سمات الحياة، ولا بد أن نعود أنفسنا على التعامل معه. عند سماعنا لأغان عن المرأة تعود إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، زمن الفن الجميل والغناء الأصيل، استمعنا إلى أحن قلب لمحمد فوزي، كتبها له عبد العزيز سلام سنة 1959، وست الحبايب، كتبوا على الشاشة أنها من تلحين محمد عبد الوهاب، ومن كلمات حسين السيد، وتعود إلى 1958، ولأن النفس تبحث دائماً عما ينقص فذلك جزء من الطبيعة البشرية. لذلك ورغم إعجابى الشديد بما كنت أراه وأسمعه. إلا أننى سألت نفسي: أين اسم فايزة أحمد؟! صاحبة الصوت النادر، التى كانت تعانى فى حياتها من إحساس قاسٍ بمعاندة البخت وسوء الحظ. فى أثناء عرض فيلم تسجيلى عن الأمهات المثاليات، اللواتى مثلن محافظات مصر كلها. وبعضهن ممن استشهد أبناؤهن من رجال القوات المسلحة أو من الشرطة فى عمليات الدفاع عن مقدرات مصر ضد الإرهابيين والمتطرفين والعدميين وأعداء الحياة، مرت القاعة بحالة استعير عنوان إحدى قصصى القصيرة لأصف بها المشهد: تمارين البكاء. ابتداء من الرئيس والسيدة زوجته، حتى كل من حولي، ترقرقت الدموع فى أعينهن. لم تكن القاعة مضاءة وقت العرض، وفى وقت الظلام يرى الإنسان الدموع أكثر من وقت الإضاءة. رأيتها كثيراً وخصوصاً على النساء الحاضرات وما أكثرهن. أكدت لى هذه اللحظة الفارقة أن إنسانية المصريين، ربما كانت من أهم ما يميزهم عن غيرهم. ولا بد أن نحرص عليها، ونعلى من شأنها، ولا نعتبرها من لحظات الضعف الإنساني. بل من مبررات القوة النادرة التى ربما لا توجد لدى شعب آخر من الشعوب، وهذه الإنسانية المفرطة هى بداية الإحساس بالقوة. فالإنسان عندما يدافع عما يشعر به، يكون أقوى من الذى يدافع عن معانى مجردة فى ذهنه. لا أقلل من الجهد الذى يقوم به الرئيس، الجميع يشعر به، وأنا أولهم. لكن لا بد من عتاب إنسانى عن بعض المظاهر التى حدثت لنا أخيرا، والتى لا يمكن أن يتصدى لها سوى الرئيس، ليس بسبب إعلاء دور الفرد فى التاريخ، واعتباره المؤثر وصاحب القرار فقط. ولكن يأساً من حكومة لا تأخذ الإنسان العادى فى بالها عند قراراتها التى تمس حياة هؤلاء الناس. أتمنى من الرئيس وهو صاحب الإرث التاريخى العظيم فى محبة الناس له أن يولى اهتمامه بحريق الأسعار اليومي، المستمر، والذى يرتفع بين لحظة وأخرى بصورة جنونية، وبشكل غير عادي. ويكفى القرار المفاجئ والذى لم يسبقه لا حوار مجتمعى ولا إعلان مسبق، ولكنه نزل على الناس كالصاعقة. ألا وهو رفع أسعار تذاكر المترو ابتداء من صباح الجمعة الماضي. سبقته زيادات أسعار الكهرباء والمأكولات مع ثبات الدخول، وهى مسألة تحتاج وقفة حقيقية لأن قدرة المواطن العادى على التحمل بدأت تصل لحدود الأنين والشكوى والتوجع. وإن كان من حق الحكومة أن تخطئ مثلما تصيب، فإن الناس فى مصر لا تتوقع من الرئيس إلا أن يكون قراره صائباً رغم أنه بشر. هو وحده الذى يتصرف. لمزيد من مقالات يوسف القعيد;