لا شك أننا فى عالم شديد التداخلات والتعقيدات, حتى صارت الفروق بين الأشياء شديدة الالتباس إلا لمن أنار الله طريقه بالعلم والوعى والفطنة والإخلاص. ولا شك أن العالِم الحر الذى لا يقيده شيء سوى ما يمليه عليه دينه وضميره ووطنيته هو ذلك الأنموذج الذى نبحث عنه, وهو القادر على خدمة دينه ووطنه وقضايا أمته دون أى حسابات مربكة, أما العالِم المؤدلَج أو المقولب أو الموجه أو الموظف لخدمة جماعة ما لا يمكن أن يكون إلا عبدًا لهذه الجماعة, ذلك أن الجماعة تأخذ من العالِم أمر دينه لتقايضه بفتات زائل من دنيا الناس, ومهما عظم أمر هذا الفتات لا يعدو كونه عرضًا زائلاً وحطامًا فانيًّا. إن أكثر العلماء الذين وظفوا أنفسهم لصالح جماعات أو أيدلوجيات جماعات وطوائف بعينها وانساقوا خلف توجهاتها خسروا حياديتهم ومصداقيتهم وأنفسهم وربما دينهم فى آن واحد. وإن أى عالِم أو مفكر أو مثقف يمكن أن تشترى ذمته على حساب قضايا دينه أو وطنه لخائن للدين والوطن, كما أن على الوطن أيضًا أن يحتضن علماءه, ويبصرهم بالتحديات التى تواجهه, وبما قد لا يقفون عليه من صعوبات وتحديات, ليدركوا ما يمكن أن يغيب عنهم من فقه الواقع وتحديات الظرف الراهن, لتنضبط رؤاهم وفتاواهم مع ما يتطلبه فقه هذا الواقع دون إفراط أو تفريط. وأنا على يقين تام ومن خلال تجربة طويلة قاربت خمسة وثلاثين عامًا فى مجال العمل الدعوى أن العالِم أو الواعظ أو الإمام غير المؤدلج فكريًّا, وبعبارة أكثر وضوحًا ومباشرة: غير المنتمى فكريًّا أو تنظيميًّا لأى جماعة كانت, لهو سهل الرجوع إلى الحق والالتقاء معك فى منطقة وسط, وقابل لأن يسمع الرأى الآخر, وألا يجادل إلا بالحق وبالتى هى أحسن, وألا يدعو إلا بالحكمة والموعظة الحسنة, ومتى تبين له وجه الحق عاد إليه, شاكرًا من رده إليه ردًا جميلاً. أما العالِم أو الواعظ أو الإمام أو الخطيب أو المفكر أو المثقف المؤدلج المنتمى فكريًّا أو تنظيميًّا لأى جماعة أو تيار فهو إما غير قابل للحوار أصلا, أو غير قابل إلا للحوار الجدلى العقيم على طريقته هو التى لا يمكن أن تؤدى إلا طريق واحد هو ما يريد بك الوصول إليه وحملك عليه وإرغامك على فكرته ولو بالباطل، وبكل ما يخالف العقل والمنطق . وإذا كان الانتماء لهذه الجماعات يُشكل خطرًا داهمًا على النسيج الوطنى وفى كل مفاصل الحياة, فإن الأمر لهو أكثر خطرًا وأشد بلاء عندما يتعلق الأمر بالدين والفكر والتربية والهوية، ولذا فإنى أؤكد وسأظل أؤكد عدم تمكين أى من المنتمين للجماعات المتشددة والمتطرفة لا من صنع القرار الدينى ولا الفكرى ولا الثقافى ولا التعليمى ولا التربوي، ولا حتى مجرد التمكن من تشكيل العقول وبخاصة عقول النشء والشباب. ولله در القاضى على بن عبد العزيز الجرجاني, حيث يقول: يَقُولُونَ لِى فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا.. رَأَوْا رَجُلاً عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا. أَرَى النَّاسَ مَن دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهمْ.. وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا. وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لاحَ لى يَسْتَفِزُّنِي.. ولا كُلُّ مَنْ لاقَيْتُ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا. وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إِنْ كانَ كُلَّمَا.. بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّمَا. إذا قِيلَ : هذا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَدْ أَرَي.. وَلكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا. ولم أَبْتَذِلْ فى خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِى .. لأَخْدِمَ مَن لاقَيْتُ لكنْ لأُخْدَمَا أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً.. إِذِنْ فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كانَ أَحْزَما ولو أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهَمْ.. ولو عَظَّمُوهُ فى النُّفُوسِ لَعُظِّمَا لمزيد من مقالات د. محمد مختار جمعة