كان توفيق الحكيم شديد الوعى بالخصوصية الثقافية لشعبنا، كما كان كثيرالتنوع فى الإبداع فكتب (فى مجال المسرح) أكثر من مسرحية اجتماعية، وكذلك مسرحيات عديدة استمد مادتها من التاريخ، وكانت له تجربة فى كتابة ال (مسرواية) فى (بنك القلق) كما كانت له محاولات عديدة فى كتابة مسرح اللامعقول، مثل مسرحية (مصيرصرصار) ومسرحية (الطعام لكل فم) ومسرحية (يا طالع الشجرة) التى استلهم عنوانها من موتيفة شعبية مصرية، حيث كان الفلاحون يُغنون: يا طالع الشجره.. هات لى معاك بقره..إلخ. فى تلك المسرحية سيدة تغزل ثوبًا لابنتها.. فهل لدى تلك السيدة ابنة؟ وهل هى حامل وتنتظرلحظة الولادة؟ أم أنها خلقتْ عالمًا وهميًا وصدّقته؟ فى الصفحات الأولى لايُفصح الأديب عن مكنون وجوهرتلك السيدة، ولكن عندما تخرج من البيت ولاتعود، وبعد أنْ غابتْ لمدة ثلاثة أيام، فإنّ الحكيم كتب المشهد التالى بين المُحقق والخادمة. قالت الخادمة إنّ سيدتها خرجتْ من البيت لشراء الخيوط لتنسج ثوبًا لبنتها بهية، فسألها المحقق: المٌحقق: بنتها؟ الخادمة: نعم بنتها بهيه. المحقق: وأين هى بنتها بهيه؟ الخادمة: لم تولد. المحقق: لم تولد؟ ومتى ستولد؟ الخادمة: لن تولد. المحقق: وكيف تعرفين أنها لن تولد؟ الخادمة: كانت ستولد من أربعين سنة. ولكنها لم تولد. المحقق: ما دامتْ قطعتْ الخلف .. فلماذا تنسج ثوبًا لبنتها التى لم تولد ولن تولد؟ الخادمة: إنها تراها وُلدتْ كل يوم.. وتولد كل يوم. ....................... فى هذا المشهد ترجم الحكيم– إبداعيًا– حالة الإنسان الذى يخلق لنفسه عالمًا من الأوهام ويُصدّقه. ورغم أنّ تلك الأوهام تبدو- فى بداية نشأتها– على أنها عابرة وسوف تزول، فإنّ مكمن الخطورة عندما تُسيطرتلك الأوهام على الإنسان يومًا بعد يوم، فيكون أسيرًا لها، وبعد حالة الأسر، يكون من الطبيعى أنْ يُصدق نفسه، أى يُصدق أوهامه، لدرجة أنّ تلك السيدة– فى المسرحية- كما قالت الخادمة- أنها ترى ابنتها كل يوم.. وتراها تولد كل يوم.. رغم أنّ البداية تعود إلى أربعين سنة مضتْ. وبما أنّ الولادة الحقيقية لم تحدث، فإنّ الخيال– خيال هذه السيدة- أناب عن الواقع. فمن هى تلك الابنة (الرمزية)؟ ولماذا اختارلها اسم (بهية)؟ وهواسم يستخدمه الشعراء كناية عن مصر؟ ومامغزى أنها لم تولد ولن تولد، ثم التأكيد على أنها ((تولد كل يوم))؟ ألاتؤكد كل تلك الإيحاءات أنّ الحكيم كان يستشعرالخطر، إبان الحكم الناصرى. مشهد: حواربين مفتش القطاروالدرويش: فى هذا المشهد يستلهم توفيق الحكيم مفردات الواقع المصرى، ويغزل عليه رؤاه من خلال مايُسمى (اللامعقول) وبينما مفتش القطارسأل الدرويش: هل تعرف ماذا أطلب من حياتى؟ فإنّ الدرويش يرد عليه بالأغنية التى كان الفلاحون يُردّدونها (أيام أنْ كان شعبنا يُنتج ثقافته القومية قبل غزوالراديو والتليفزيون لقرى الفلاحين) قال الدرويش لمفتش القطار: يا طالع الشجره هات لى معاك بقره تحلب وتسقينى بالمعلقه الصينى فما علاقة الأغنية بالسؤال؟ وهل فوق الشجر بقر؟ إنه الخيال الشعبى، الذى يُكمل ماعجزعنه الواقع، أوهوبديل الواقع. وهذا الحل (الشعبى/ الفانتازى) يراه علماء الاجتماع أنه درجة من درجات مقاومة بؤس الحياة، بغرض الاستمرارفى الحياة. لذلك كان الحكيم موفقًا عندما جاء رد مفتش القطار– بعد أنْ سمع الأغنية: ((يظهرإنك عرفتْ)) والحكيم فى هذا الرد المُختصر، ترك مساحة للقارئ ليُكمل باقى الجملة: أى أنك أيها الدرويش عرفتَ طلبى. بعد ذلك يستمرالحواربينهما على هذا النحوالبديع الذى مزج فيه الحكيم الواقع بالفانتازيا: الدرويش: العارف لايُعرّف. المفتش: إذن لاحاجة بى إلى الشرح. الدرويش: هناك فى ضاحية الزيتون. المفتش: ضاحية الزيتون؟ الدرويش: هناك سوف تجد... المفتش: أجد ماذا؟ الدرويش: الشجره.. فى الشتاء تطرح البرتقال.. وفى الربيع المشمش.. وفى الصيف التين.. وفى الخريف الرمان. المفتش: شجرة واحدة؟! الدرويش: واحدة.. كل شىء واحد.. فى هذا المشهد– شديد الكثافة- فإنّ الحكيم– بسلاسة إبداعية- نقل القارئ من الشجرة التى تتربّع فوقها بقرة، كما أراد خيال الفلاح المصرى، إلى شجرة عجيبة هى الأخرى، تطرح فاكهة الشتاء والربيع والصيف والخريف، أى أنها شجرة كل فصول السنة. ولكن السؤال هو: هل توجد شجرة (واقعية) لها تلك القدرة الخارقة على انتاج فاكهة كل الفصول؟ أم هى شجرة رمزية لشىء أبعد وأعمق؟ الاجابة– من خلال الحوار- إنها شجرة، رمزية لأى شىء؟ رمزية لما قاله الدرويش وهويتحدّث عن الشجرة .: هناك الشجره والبقره والشيخه خضره. فإذا كانت (الشجرة) رمزالخضرة والجمال والعطاء، والبقرة رمزحتحورالتى قدّسّها جدودنا المصريون، وكانت ترمزللجمال، وتُرضع الآلهة والبشر، كما جاء فى البرديات وعلى الجداريات العديدة، فإنّ ذلك الثنائى (الشجرة والبقرة) هوالتمهيد لما قصده الحكيم عندما وضع بعدهما مباشرة (الشيخة خضرة) فمامغزى هذا الاسم (والأدق هذا الرمز)؟ لا أغالى إذا قلتُ أنّ الحكيم كان يقصد (طبيعة الأرض المصرية) العفية القادرة على العطاء أعتقد أنّ الحكيم فى هذه التجربة من تجارب مسرح اللامعقول، استطاع أنْ يمزج الواقع (المصرى) بمفرداته (من الطبيعة المصرية ومن الفلوكلورالمصرى) بالفانتازيا، لأنه استلهمَ واستوعبَ التيمات الشعبية التى أنتجها الأميون المصريون. وهذا الجانب من إبداع الحكيم تجاهله أغلب النقاد.