أنتم المصريين تختلفون عن غيركم من أبناء شعوب المنطقةس سمعت هذه العبارة أكثر من مرة أثناء سنوات الدراسة بالخارج. سمعتها من زملاء أجانب تفاعلوا معى ومع غيرى من مصريين، و تفاعلوا أيضا مع جنسيات أخرى من المنطقة. حديث هؤلاء الأجانب لم يكن يعنى أن المصريين أكثر تفوقا أو ذكاء المصريين و لكن كان يشير الى أن سلوكهم العام به قدر من الاختلاف مقارنة بآخرين قد يتحدثون نفس اللغة أو يؤمنون بنفس الدين. هذه الملاحظة عن المصريين دفعتنى كثيرا للتفكير فى أسبابها. وكان التفسير الأقرب لعقلى هو أن مصر التى ننتمى اليها ليست مجرد دولة أو جنسية، ولكنها فكرة أو مجموعة من الأفكار تغلغلت داخلنا بشكل طبيعى، وصارت كأنها جزء من تكويننا الجينى، وأصبحت محركا للسلوك ومصدرا للاختلاف عن الآخر غير المصرى. الحديث عن الدولة كفكرة ليس اختراعا مصريا، والمتتبع للجدل السياسى الدائر الآن فى الولاياتالمتحدة سيجد أن هناك فريقا يعارض سياسات ترامب الخاصة بالهجرة ودخول الاجانب على أساس أنها غير «أمريكية» أى تتعارض مع فكرة الولاياتالمتحدة كمجتمع مفتوح والتى وضعها الآباء المؤسسون عند قيام الدولة. نفس الجدل يدور أيضا فى فرنسا ودول أوروبية أخرى مع تصاعد تيار اليمين العنصرى. الهدف من كتابة هذا المقال إذن ليس دغدغة المشاعر الوطنية، أو صك عبارات شاعرية عن تميز مصر و المصريين. ولكن المسألة لها أبعاد سياسية مهمة داخليا و خارجيا. ونبدأ بالتساؤل: ماهى مكونات «فكرة مصر»؟ وما أهمية هذا الموضوع؟ مصر ليست مجرد بشر و نظام سياسى وقدرات عسكرية واقتصادية، أو تاريخ إنجازات و إسهام قيادات، و لكنها أيضا فكرة تكونت و ترسبت عبر سنوات طويلة. والحديث عن مكونات مصر كفكرة لايزال يحتاج جهدا بحثيا كبيرا قد لايقل عن الجهد الذى بذله الدكتور جمال حمدان فى دراساته عن مصر وعبقرية المكان. ولكن يمكن مبدئيا الحديث عن المكونات التالية: الخصوصية المصرية، أو إحساس المصريين بالتفرد التميز نتيجة اختلاف التجربة التى مروا بها عبر خمسة آلاف عام منذ تأسيس الدولة المصرية على يد مينا موحد القطرين . تجربة شهدت بناء حضارات وقيادة انتصارات وفتوحات، وكذلك انتكاسات وانكسارات، ولكنها جميعا راكمت هذا الاحساس بالخصوصية، الذى انتقل عبر الأجيال، وصار جزءا من تركيبة المصريين، وشعورهم بأنهم ليسوا مجرد دولة أخرى فى جامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامى، وجعلت مسألة «الكرامة الوطنية» لها حساسية خاصة فى تعاملهم مع الخارج. التعايش مع الآخر داخل الوطن والقدرة على استيعابه، بما فى ذلك من أصبح جزءا من هذا الوطن نتيجة فتوحات أو غزوات، حيث شارك الجميع فى بناء الحضارة، ومصر تكاد تكون الدولة الوحيدة التى بها متاحف لكل من الحضارة الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والاسلامية، وكلها لها مكون محلى نما على أرض هذا الوطن. الانفتاح على الخارج ورفض الانغلاق والعزلة أو الانكفاء على الذات. حيث شعر المصريون دائما بأن دورهم يتجاوز حدودهم، فانفتحوا على الخارج، وامتدوا فيه، أحيانا بقوة السلاح، وكثيرا بقوة الفكرة والنموذج. تمثل «الوسطية» أيضا أحد مكونات الفكرة المصرية. وكما يتدفق نهر النيل بمساره الرئيسى وسط الصعيد والدلتا، ويتفرع عن هذا المسار بعض الترع والقنوات الهامشية، فهناك أيضا مسار أو شريان رئيسى للفكر المصرى يتسم بالوسطية والاعتدال ويؤمن به غالبية المصريين، ولايمنع ذلك من وجود أفكار متطرفة على التخوم و الهوامش، بعضها قد يكون له صوت مرتفع، ولكنها لم تحتل أبدا المكانة الرئيسية فى عقول و قلوب غالبية المصريين. ولكن ما أهمية الحديث عن مصر كفكرة؟ أهمية الموضوع ترجع لأسباب كثيرة، أولها أن بلورة هذا المفهوم، وتحديد معالمه، يمكن أن يمثل البوصلة التى يجب ألا يحيد عنها السياسى الذكى، كما أن تضمينها فى مناهج التربية الوطنية والدراسات الاجتماعية سوف يسهم فى بلورة الشخصية و دعم الانتماء لدى أبناء الجيل الجديد من الشباب، فى وقت تتعرض فيه الهويات و الثقافات الوطنية لضغوط شديدة نتيجة لظاهرة العولمة. وثانيا، ترسيخ الفكرة المصرية ومايجمع المصريين فى إطارها سوف يحد من ظاهرة الاستقطاب والانقسام السياسى التى يشهدها المجتمع، خاصة بين التيارات المدنية. وثالثا، سوف يؤدى تحديد المسار الرئيسى للفكرة المصرية الذى يتسم بالوسطية و الاعتدال الى تهميش أفكار التطرف، ومنها تلك المرتبطة بالإسلام السياسى والتى لم تكن يوما جزءا رئيسيا من مكونات الفكرة المصرية، ولكنها انتشرت و تمتدت فى ظل الفراغ الفكرى الذى نعيشه. والواقع يثبت أن فكرة الوطنية المصرية هى الوحيدة القادرة على مواجهة فكرة الإسلام السياسى وهزيمة تياره فى الساحةالسياسية. ورابعا، فإن مكانة و دور مصر الإقليمى ارتبط دائما بقوتها الناعمة و ليس بقدراتها الاقتصادية و العسكرية، أى ارتبط دائما بفكرة، سواء فكرة مصر كنموذج تحتذيه الدول الأخرى فى المنطقة، أو مصر كمركز للإبداع الثقافى والفنى العابر للحدود، أو المساهمة المصرية بأفكار فى تسوية المشكلات الدولية، وقيادة المنطقة بهذه الأفكار نحو آفاق جديدة. خلاصة القول، يجب ألا يقتصر حديثنا وجهدنا على مسألة تجديد الخطاب الدينى، ولكن علينا أيضا كدولة و كنخبة ثقافية أن نبلور مفهوم مصر كفكرة، ونستخدم هذه الفكرة فى بث روح الانتماء لدى الشباب، والحد من ظاهرة الاستقطاب المجتمعى، وتأكيد قيم الوسطية والاعتدال و تهميش أفكار التطرف الدينى، واستعادة المكانة و الدور المصرى فى المنطقة. باختصار قوة مصر الحقيقية هى فى فكرتها. لمزيد من مقالات د. محمد كمال