يتوقف الكثيرون طويلا حول ما يصدره ترامب من قرارات يومية تمس حياة الملايين ليس فقط فى الولاياتالمتحدةالأمريكية ولكن أيضا فى العالم كله ظانين أن الدولة الكبرى فى العالم وراعية الأطروحات الديمقراطية الليبرالية يجب أن يحكمها شخص رشيد تحكمه مؤسسات وظيفية وتناسى البعض أن النموذج الليبرالى قد راجع مقولاته وثوابته بل ولم يستبعد أبدا أن تفرز ميكانزماته وآلياته قادة أفرختهم التعددية الحزبية التنافسية واختارتهم أصوات الناخبين، ولكنهم قد يضربون «نظريا» الديمقراطية وحقوق الانسان «الطبيعية» فى مقتل ويلقون بشعوبهم فى أتون صراعات خاسرة لا تحكمها أبدا معايير الرشادة وحسابات المكسب والخسارة التقليدية. ولقد كان النموذج الليبرالى مبدعا حين طرح رواده مفهوم «الديمقراطية اللاليبرالية».. وبالرغم من طرافة المصطلح وتناقض مفرداته إلا أنه المصطلح الأولى بالرعاية الاكاديمية حين نحاول أن نفهم العديد من القرارات التى أصدرها ترامب مؤخرا بل وحينما نغوص فى مفردات خطابه اللغوى المغلف دائما بلغة الاستبعاد والتهديد ومفردات الشذوذ اللاعقلانى المستهجن دائما من النموذج الليبرالى التقليدى والمزاوج دائما- بحجج الرشادة- بين الديمقراطية وحرية الرأى والتعبير اذ لم يتردد سيادته فى التمرد على كياسة «الرشادة» المألوفة بالتفاخر بعنصريته بل والتغنى بماضيه النسائى المشين. وبعد أن استثار ترامب حفيظة المفكرين المتعبدين فى محراب الليبرالية التقليدية بوصول «اللاأفضل» للحكم وفقا لوجهة نظرهم، أهاج البسطاء الذين نزحوا الى «الأرض» الموعودة آملين فى التمتع بالحرية وحقوقهم الطبيعية بخطابه العنصرى بضرورة استبعادهم هم الاخرين اذا كانوا من مواطنى سبع دول اسلامية ومنعهم من الدخول الى أرض الليبرالية والديمقراطية فى سابقة شديدة الغرابة حتى على بسطاء الناس لدولة تتغنى بالحرية.. وبعد التعامل اللامألوف من رئيس دولة غير تقليدى الصورة والخطاب فى دولة مازالت أطروحاتها تقليدية فى حرية حركة البشر وحقوق الانسان، التفت الى الاعلام أقوى أدوات الديمقراطية فى تشكيل المنظومة القيمية المجتمعية وأكثرها ضراوة فى التأثير على الرأى العام ليشاكس الاعلاميين الذين لم يسلموا من تمرده على «اللامألوف» ولغته الاستبعادية بل وترديده أن الاعلام كاذب ومتحيز وأداة غير محايدة فى يد ذوى المال والثروة، بل وزاد تمرده باتهام الاعلام أنه مرض أصاب المجتمع ولابد من علاجه.! وصور البعض الأمر وكأن ترامب لم ينس للاعلام ترشيحه لمنافسته هيلارى كلينتون فى الفوز الساحق فى الانتخابات الرئاسية السابقة، الأمر الذى وصل ببعض الاعلاميين من باب السخرية أن يهدد بالنزوح الى دولة أخرى فى حال وصوله للحكم ليجيء الأخير ويرد «السحر» الايديولوجى على الصحافة والاعلام أو كما يحلو للبعض على الساحر فى تحد «لا مألوف» للنموذج الديمقراطى الليبرالى الذى طالما قدس دورهما.. وأمعن ترامب فى تحدى الخداع الاعلامى الأمريكى اللاهث دائما وراء «اللامألوف» منبع المال والشهرة والذى يعتبره البعض صانع «ترامب» نفسه حين طرحت وسائل الاعلام صورته وكأنه مزحة «الموسم» ونكهة «التنافسية» لانتخابات استبقوا فيها بكبريائهم الاعلامية الرشيدة والمألوفة وحساباتهم الليبرالية التقليدية فوز كلينتون. وأعيد... أمعن ترامب فى تحدى الاعلام الامريكى بتقاليده المهنية التقليدية وبدا وكأنه فاقد لمصداقيته ورد عليه سحره حينما جاء ترامب للحكم، ومن ثم ليس على الكثيرين البكاء على لبن الديمقراطية الليبرالية الاعلامية المسكوب حين هاجمهم ترامب وأعلن الحرب عليهم اذ كانت ارهاصات تهاوى النموذج الاعلامى الليبرالى مدوية متمثلة فى الاكاذيب اليومية والاستفتاءات المزيفة نتائجها التى روج لها الاعلام الأمريكى والتى وصلت لذروتها فى نفى تسريبات ويكيلكس عن كلينتون نفسها ليصل الاعلام الى أدنى مستويات مهنيته «المحايدة» فى طرح الحقائق وفقا للنموذج الديمقراطى الليبرالى النظرى ومن ثم لاعجب أن يداعبهم ترامب بمفردات استعلائية لثقته وتيقنه أن هذا الاعلام فى موقف الأضعف، فترامب «بالاعلام البديل» فى تويتر والفيس بوك واليوتيوب طرح نفسه كرئيس «رشيد» ولم يكن فى حاجة الى ان يولى اهتماما لهذا الاعلام الساذج أو مهنيته الملوثة بقيم الانحياز. ويفتح كل هذا الباب لتحليل العلاقة غير «المألوفة» بين القادة السياسيين والاعلاميين فى عالم الاعلام والسياسة اذ يخلق تحديا لايمكن انكاره للنموذج الديمقراطى الليبرالى ويطرح فى الوقت نفسه نموذجا آخر غير محددة أبعاده وغير محسوب أطروحاته كبديل ومناوئ للنموذج «المهيمن» المعتاد ليفرز قيما وتوجهات سياسية بديلة قد يعتادها الناس مع الوقت والأخطر انها قد تتماشى مع الطرح الساخر الطريف لنموذج «ديمقراطى غير ليبرالى» ليعطى هذا المبرر لمزيد من الفوضى «الخلاقة» ولكن هذه المرة فى الجانب الآخر من الكرة الارضية وفى معقل من روجوا لها ليصدرها الى دولنا المستقبلة دائما والمفتخرة بالمحاكاة والتقليد غير مدركة أن الاعلام لا يصنع واقعا وانما عليه أن يعكسه حتى لو لم يكن الاعلامى كامل الموضوعية والحياد ويبقى عدم الوعى بالخبرة الأمريكية وتجاهل أن المواطن البسيط فقد ثقته فى السياسة بمؤسساتها وأطروحاتها الاعلامية التقليدية وأصابه الملل من التكرار وحديث الببغاوات، سواء فى الهجوم أو الدفاع عن السياسيين.. ولاريب أن فقدان ثقة المواطن فى السياسة والسياسيين لن يفلت منه الاعلام والاعلاميين الذين لايزالون متمسكين بتلابيب مفردات بالية، وآليات متهاوية فقدت مصداقيتها ومن ثم فان استمرار عدم الوعى بالرسالة الاعلامية الحقيقية وآلياتها المبتكرة والمتزامنة مع السياق وتهاوى المهنية سيؤدى باعلامنا لنشر فوضى من نوع آخر فى مجتمعنا وهى فوضى «هدامة» تطيح باخر معقل للتوعية والبناء فى دولنا.. لمزيد من مقالات د. أمانى مسعود الحدينى;