شكل كتاب الاستشراق للمفكر الفلسطينى إدوارد سعيد علامة فارقة فى نقد التاريخ الثقافى للنظرية الغربية المتعالية تجاه الشرق حتى صار مصطلح الاستشراق لا يعنى مجرد التخصص فى الدراسات الشرقية الذى بدأ كمجال بحثى فى أوروبا فى نهاية القرن الثامن عشر، بل تلك التصورات والتحيزات التى تستخف بالثقافات الشرقية وترى العرب متخلفين وخطرين فى بعض الأحيان. يستمد كتاب «قصر أحلام أمريكا- الخبرة فى الشرق الأوسط وصعود دولة الأمن القومي» لأسامة خليل الباحث وأستاذ العلاقات الدولية المساعد فى جامعة سيراكوز الأمريكية عنوانه من مذكرات تى إى لورانس الذى أراد أن يكون ملهمًا للشعوب السامية لتبنى «قصرًا للأحلام» من الأفكار القومية. ولكنه يقلبه رأسًا على عقب ليشير إلى تصورات وأفكار لدى الباحثين وصانعى السياسات الأمريكيين عن تلك الشعوب. يذهب أسامة خليل إلى أن الاستشراق كما يقصده إدوارد سعيد ومقتضيات الأمن الأمريكى لم تؤثر فى منتجات الثقافة الشعبية فحسب ، بل فى الخبراء الأكاديميين المتخصصين فى الشرق الأوسط. ويلفت النظر إلى أن الحدود الجغرافية لما يعرف بالشرق الأوسط تغيرت لتعكس المصالح الاستعمارية المتنافسة للدول الأوروبية ، ثم المصالح الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية وخروج الولاياتالمتحدة من الحرب كقوة مهيمنة. والمفهوم الثانى المرتبط عضويًا بالاستشراق هو التميز الاستثنائى الأمريكي، وقد اعتبر باحثون أن هذا التميز الاستثنائى شكل من أشكال الاستشراق يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالامبراطورية. وتم إدماج التميز الاستثنائى والامبراطورية فى العلوم الاجتماعية الأمريكية التى صنعت نماذج لفهم العالم تجسد الإيديولوجية الأمريكية عن ذلك التميز. وتبدأ قصة العلاقة بين الدراسات الأكاديمية والسياسات الأمريكية التى يسردها الكتاب بالحرب العالمية الأولى حيث تشكلت مجموعة من الخبراء والمبشرين عرفت بمجموعة التحقيق لتساعد الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون فى التحضير لمؤتمر باريس للسلام. وأسهمت رؤية فرع غرب آسيا الاستشراقية لشعوب الشرق الأوسط فى موافقة وودرو ويلسون على تفويض البريطانيين والفرنسيين فى حكم الشام والعراق بعد الحرب العالمية الأولى. وكان العرب القلائل الذين تحدثت إليهم مجموعة التحقيق كالأمير فيصل الذى صار ملك العراق فيما بعد يشاركون الغربيين فى النظرية الدونية للشعوب العربية. وأثناء الحرب العالمية الثانية، حينما كانت الولاياتالمتحدة تسعى إلى وجود مستقل عن القوى الاستعمارية الأوروبية فى الشرق الأوسط، التحق مؤرخون ومبشرون وعلماء آثار بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذى كان نواة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وكانت التقارير التى يقدمها هؤلاء تعكس نظرة متعالية تجاه شعوب المنطقة تدعى أن تلك الشعوب لا تفهم غير لغة القوة وأنها غير مؤهلة للديمقراطية بالمعنى الغربي. وبعد الحرب العالمية الثانية التى خرجت منها الولاياتالمتحدة دون خسائر تذكر وتعاظم اقتصادها مثلت دراسات المناطق تقاطعًا بين الباحثين فى الحرب الباردة ودولة الأمن القومى فى أمريكا. ويوضح المؤلف أن إنشاء وتمويل مراكز البحث فى الشرق الأوسط جعل مؤسسات حكومية وغير حكومية موحدة فى الأهداف والمصالح. ولم يكن من السهل الفصل بين ما يدرسه الباحثون، الذين أطلق المؤلف عليهم لقب «أكاديميى الأمن القومي»، ومحاولات الولاياتالمتحدة لإعادة صياغة النظام العالمى بعد الحرب الحرب العالمية الثانية. وتدفقت الأموال على برامج دراسات المناطق. وأضاف الباحثون بعدًا جديدًا للاستشراق بإضافة مفهوم »التحديث«، فالعرب والمسلمون متمسكون بالتقاليد تمسكًا مرضيًا وغارقون فى الفقر ولاهوت العصور الوسطى، وينبغى أن تقودهم الولاياتالمتحدة إلى الحداثة، أى أنهم أرادوا أن يعيدوا صياغة الشرق ليكون على غرار الغرب. وفى نهاية الستينيات تحدى بعض شباب الباحثين المفاهيم النمطية للاستشراق ونظرية التحديث. وعجل نشر كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد فى نهاية السبعينيات بشيوع النظرة النقدية، ولم تعد الأبحاث متماشية مع السياسات. وكان ذلك سببا فى إنشاء المراكز البحثية الخاصة التى ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بمؤسسة الأمن القومى الأمريكى وبخاصة فى فترة ما بعد 11 سبتمبر 2001، وكان ذلك كما يقول المؤلف على حساب البرامج الجامعة لدراسات الشرق الأوسط. أمدت تلك المراكز صانعى السياسات باستشارات كانت فى معظمها منحازة إلى إسرائيل فى الصراع العربى الإسرائيلى تعتبر كل مقاومة فلسطينية للاحتلال الإسرائيلى إرهابًا. وفى الفصل الأخير من الكتاب ينتقد أسامة خليل الطفرة فى التمويل الفيدرالى فيما يعرف «بدراسات الإرهاب» وكذلك مبادرة وزارة الدفاع التى زرعت الباحثين فى وحدات الجيش الأمريكى فى العراق وأفغانستان وقد أنهى عملها فى 2015 بعد الانتقادات التى وجهت إليها بأنها لم تفرق بين الباحثين والعسكريين. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى ;