لا أكاد أصدق أن مائة عام كاملة قد مرت... فنحن فى بر المحروسة لا نتذكر حقيقة ما كان. الثالث من مارس عام 1917،تاريخ قد لا يستوقف الكثيريين، وحتى إذا أردنا العودة لنعرف ما حدث، لن تحتمل هذه العودة أكثر من رحلة بحث فى صورالأبيض و الأسود التى تفيض روعة كلما حكت لنا عن شوارع وميادين القاهرة الجميلة. لكن انتظروا قليلا، حتى نجدها صورة لفتاة صاحبة وجه صبوح مشرق تطل منه ملامح اصيلة ولدت فى هذا اليوم لتضيف إلى بر مصر تمدنا وتحضرا من نوع خاص. هذه الفتاة هى سميرة موسى على الطفلة التى ولدت فى قرية سنبوالكبرى بمركز زفتى محافظة الغربية، وكان من الممكن أن تكون واحدة من البنات، أو واحدة من البشر الذين يأتون الدنيا ويذهبون عنها، فلا نسمع لهم ذكرا خارج جدران بيوتهم. صحيح أنها ولدت قبل أن تبدأ العشرينات، ولكن يحسب لذلك الزمن شهادته للقصة الكاملة لمصر المتمدنة. فهناك سنوات طويلة تفصل بين مولدها ومولد شيخ العارفين و المتعلمين رفاعة رافع الطهطاوى صاحب حل مصر الحضارى الذى حافظ على كل ما هو أصيل فى الجذر المصرى قبل أن يأتى بكل جديد فى فكر الغرب. هذه الخلطة المصرية الصحيحة والمباركة هى ما ساند أجيال من المتنورين جاءوا بعد رفاعة.لا أريد أن نتوقف كثيرا قبل أن نبدأ حكاية سميرة، وإن كان ينبغى وبحسابات السياسة والتاريخ أن نعرف أن مصر فى ذلك الزمن قد أبلت بلاء حسنا فى سبيل الاستقلال، وكان كل شئ مهيأ قبل أن تندلع ثورة 1919التى أعتبرت أكمل ثورة مصرية. تصلح ثورة 1919 كبداية لقصة هذه الفتاة المتميزة التى تحلق حولها أهل البلد وهى تقرأ عليهم ما كتبته جريدة عن الزعيم سعد زغلول. لم تكن المسألة خاصة بمقدرة هذه الفتاة الصغيرة على صحيح القراءة، وهى التى لم تمض سوى عامين فقط فى كتاب الشيخ البكرى، فالأمر تعدى إلى شهادة أهل بلدها بامتلاكها ذاكرة قوية لا تضيع منها أى من تفاصيل ما كتب. وحتى حواشى الكلام وما بين السطور استطاعت أن تقرأه و أن تفهمه لمن حولها. والغريب أنها لم تكن وحيدة والدها الشيخ موسى على، فلديه من الأبناء والبنات من يكبرها ومن يصغرها سنا، ولكنهم لم يمتلكوا هذا الاداء وهذه الذاكرة. يبدو أن الزمن كان بالفعل راقيا، وأنه حتى الريف سمع عن مصطفى باشا كامل و طلعت باشا حرب، فمصر المتحضرة كانت تستدعى أبنائها، وكان من بينهم أبيها الشيخ المتنور الذى قرر أن يذهب بأبنته إلى القاهرة لتواصل دروسها. الحق يقال أن كل فتاة بأبيها معجبة، ولكن عندما يعجب الأب بأبنته، يفعل كما فعل الشيخ موسى على الذى اشترى فندقا متواضعا فى حى الحسين. عزيز ما قدمه الأب لابنته، وهو الفلاح الذى لم يعرف و لم يعش فى غير ظل أرضه. فمابالنا بمصر المحروسة التى يتوه فيها الكبير والصغير والتى كان لابد له أن يثبت أقدامه وخاصة أن مصير عائلته أصبح معلقا بقراره. يتقدم الأب خطوة للأمام ويبنى لوكاندة وادى النيل بميدان العتبة، وكما ينجح الأب، تنجح الأبنة فى الالتحاق بقصر الشوق الابتدائية ثم مدرسة بنات الأشراف تحت رعاية رائدة التعليم نبوية موسى. تبدو نبوية موسى قصة أخرى جديرة بالمعرفة، فهى أول فتاة تحصل على شهادة البكالوريا بمجهود ذاتى و أكبر من ناضل لأعوام و أعوام لتثبت قدرتها على الاستمرار، حتى وإن كان ملفها – كما يشير كتاب الدفترخانة دار المحفوظات العمومية- يضج بالكثير من المذكرات الموجهة إلى وزير المعارف بالشكوى من اضطهاد الوزارة لها، وسلبها سلطاتها و تمييز الرجال عليها، حتى أصبح العمل بمثابة السجن الانفرادى. تعبير غريب تكتبه إمرأة ناجحة تؤلف كتابا مهما عنوانه "ثمرة الحياة فى تعليم الفتاة" وتكتب فى جريدة السياسة اليومية التى كان يصدرها حزب الأحرار الدستوريين. لكن نبوية موسى تلك الرائدة المستنيرة لا تقف عند حدود الشكوى، فهناك مدارس أشرفت عليها ومنها مدرسة بنات الأشراف التى ألحقت بها معملا لتقوم تلميذتها النابهة سميرة بتجاربها و لتضمن استمرار التفوق و التوهج لهذه الفتاة الصغيرة . كانت نبوية موسى بالفعل نموذجا يحتذى به، و إن كان التلميذ يتجاوز دائما طموح أستاذه . مقولة حققتها سميرة موسى بالتحاقها بكلية العلوم،وهى التى ألفت كتابا عن الجبر أثناء المرحلة الثانوية، فالدنيا تتغير ومصر تتألق بتلك الرغبة فى التقدم، وإن كان لهذا أيضا حدود. التلميذة النابهة لا تستطيع أن تعين فى الجامعة بعد تخرجها فى نهاية الثلاثينات حتى لو تقدم أستاذها د. مصطفى مشرفة عالم مصر بمذكرة مسببة للجامعة وحتى أنه رهن استقالته على تحقيق هذا الهدف كما يؤكد د. صلاح جودة فى كتابه" أشهر الاغتيالات السياسية". كان لابد للجامعة أن تستمع لحجة الأستاذ الذى كتب الله تعالى له تحقيق الكثير من الانجاز ، فهو العالم بالذرة والصديق للعالم اينشتاين، وأيضا نوار مصر الذى تفتح فى زمن جمع بين العلم والأدب و الفن، لم يعرف الفرص الضائعة. وفى المقابل كان لابد للتلميذة أن تستمر فى جهادها العلمى فتعد لرسالتها للماجستير، وتنتظر لتتاح لها فرصة السفر، لتحصل على درجة الدكتوراه فى الأشعة السينية وتصبح أول إمرأة عربية يتصدر أسمها المشهد العلمى. كانت انجلترا هى موطن الزاد العلمى الذى منحها ثلاث سنوات خالصة من التعلم، خصصت فيه عامها الأخير للتعمق فى دراسة تأثير الذرة فى مجالات العلاج، لتتلقفها الولاياتالمتحدة بدعوة ضمن برنامج الفولبرايت حيث شهدت معامل جامعة سان لويس اداء وتبحرا غير متوقع من تلميذة مشرفة العبقرية. أداء لافت للأنظار، أما ما كان يلفت انتباه و عقل سميرة، لم يكن بعيدا عن بر مصر. فسميرة تستزيد من علم و تجود منا لأداء لتعود بحقيبة العلم الثقيلة إلى بلدها. وداخل هذه الحقيبة تقبع احلام وتطلعات، فلا يمكن أن يكون ما قدمه الشيخ موسى على و السيدة نبوية موسى وأستاذها مشرفة مجرد صدف فى حياتها، وعليها أن تعود إلى مصر بمشروع كبير للطاقة النووية واستخدامها السلمى فى معالجة الأمراض والمشروعات الكبرى. ولكن ما حدث وكما يقول الكاتب أحمد زكى عبد الحليم أن ركبت الدكتورة السيارة، ومن منطقة مرتفعة اندفعت السيارة لتسقط فى الهاوية ، بينما قفز منها قائدها و اختفى إلى الأبد. كان ذلك يوم 5 أغسطس 1952، وكانت سميرة موسى فى الخامسة والثلاثين من عمرها. ولكن كيف وقع الحادث؟ ولماذا ماتت سميرة وحدها، ومن الذى دعاها إلى هذه الرحلة ؟ أسئلة تظل بلا اجابات، و إن كانت خلفها ألف علامة استفهام، فقد كانت تستعد للعودة بعد أن رفضت كل العروض التى تلقتها. فمشكلة سميرة -كما يقول عبد الله بلال فى كتابه اغتيال العقل العربي- أنها أدركت فى وقت مبكر أخطار البعد النووى فى الصراع، وكانت من ثمرة جهودها إنشاء هيئة الطاقة الذرية، و تنظيم مؤتمر الذرة من أجل السلام. وقد نجحت تجاربها فى تصنيع القنبلة النووية من معادن رخيصة متوفرة لدى جميع بلدان العالم، لتكسر احتكار الدول الكبرى للتسليح النووى. قصة عجيبة جدا تحتاج إلى أكثر من راوى و حكاء و كتاب و كتاب...وإن كان أى منهم لن يستطيع أن يصف لنا لحظة تنطفئ فيها شمعة حياة ابنة عزيزة وعالمة كبيرة...كانت تحب مصر كثيرا، ورحلت عنها وهى فى الخامسة والثلاثين. ولكن الان، ما الذى يحدث عندما نتذكرها، هل سنعتبرها مجرد قصة مضت...لا أعتقد فداخل كل بيت فى مصر أكثر من إمرأة ورجل يمكنهم أن يعبروا بنا خطوات إلى الأمام ...والمهم أن نبدأ. وسلام على هذه العبقرية المصرية الجميلة التى يمر اليوم على مولدها مائة عام. لمزيد من مقالات د.هالة أحمد زكى;