سيظل سعر الدولار عنصرا فاعلا فى تحديد أسعار كثير من السلع والخدمات فى مصر خاصة أننا مجتمع مستهلك بالدرجة الأولى، الجزء الأكبر من هذا الاستهلاك يأتى عبر الاستيراد، وليس بالإنتاج المحلى ومن ثم يصبح الدولار العملة الأقوى دوليا مفتاح الحل والعقد فى تسيير دفة الاقتصاد بلا شك. أما كيفية تحديد سعر الدولار مقابل الجنيه فلها آليات اقتصادية بحتة، من خلالها تقاس قيمة عملتنا المحلية، منها الفجوة بين الصادرات والواردات التى تصب فى مصلحة الأخيرة بشكل مخيف، وإيرادات قناة السويس التى لم تزد، والعائد من السياحة وكلنا نعرف نتيجته، وأشياء أخرى نتائجها لا تختلف عن سابقاتها. بما يعنى انخفاض قيمة الجنيه مقابل الدولار، وهو ما ظهر جليا عقب قرار تعويمه، فرأينا انخفاضاً كبيراً فى قيمته بقيم مطردة هبوطاً حتى تجاوزت قيمة الدولار ال 20 جنيهاً، لتصاب الأسواق بلا استثناء بحالة من سعار الأسعار غير المسبوقة، حتى المنتجات المحلية الصنع مثل السكر والأرز، أصابتها عدوى السعار وارتفعت أسعارها هى الأخرى بشكل غير مبرر، وخرج الخبراء والمحللون يسهبون فى شرح الأسباب وضرورة التعويم، ولكنهم نسوا أو تناسوا أن يوضحوا كيفية إغفال إنشاء برامج حماية قوية للملايين من البسطاء الذين طحنتهم زيادات الأسعار وأصابتهم بالوهن والتوتر وعدم الاستقرار، ولا أبالغ حينما أتحدث عن الشعور بالمرارة الذى سكن نفوس العديد من الناس بسبب عجزهم عن تلبية أبسط الاحتياجات فى إطار ثبات الدخل. وانشغلت الحكومة بمحاولة تدبير الاحتياجات الأساسية كما هى عادتها على مر العقود السابقة، دون أن تعى أن أهم أدوارها تنظيم الأسواق ورقابتها، سيما أنها تملك من الأدوات الفاعلة ما يمكنها من بسط يدها على مجريات الأمور، وأعطى مثلا للتدليل على ما ذكرت، تسربت أنباء عن أن حصيلة الجمارك على السيارات المستوردة منذ تعويم الجنيه وحتى الآن ضعيفة، فما هو مبرر الزيادات الجنونية لأسعار السيارات التى تجاوزت ضعف سعرها قبل التعويم فى بعض الأنواع، و ماذا فعلت الحكومة لضبط هذه السوق؟ وما حدث فى هذه السوق تكرر فى العديد من الأسواق الأخرى، وبرر التجار والصناع الذين يدخل فى صناعاتهم مواد خام يتم استيرادها هذا الأمر بانخفاض القيمة السوقية للجنيه مما يضطره لرفع السعر تعويضا عن الخسائر الناجمة عن هذا الانخفاض، وتغافل هؤلاء أن هذا الانخفاض هو فى الواقع ميزة تنافسية تصديرية من المفترض أن ينافس بها السلع المماثلة فى الدول الأخرى باعتباره يطرح سعرا تنافسيا عالمياً كما كان مأمولا أن تكون الاستفادة من تعويم الجنيه! ولكن الذى حدث هو العكس تماما، تفرقت القبائل، وذهبت كل قبيلة تدافع عن مصالحها بكل قوتها، البنك المركزى سخر كل امكاناته وكذا صلاحياته لتعظيم الاحتياطى الدولارى، حيث يمثل سداد أقساط الديون المستحقة على مصر فى السنوات المقبلة بما يعادل 15 مليار دولار، أبرز الضغوط التى يواجهها المركزى، إضافة إلى أن توفير العملة الصعبة لشراء السلع الاستراتيجية مثل البنزين والسولار والقمح .. إلخ، يمثل الأولوية القصوى خاصة أن الاحتياجات اللازمة لاستيراد السلع والخدمات من الخارج قاربت ال 12 مليار دولار وهى تقريبا قيمة الحصيلة بعد التعويم، قد تم إنفاقها بالكامل، وفى سبيل ذلك ترك البنك المركزى سوق الصرف مفتوحة على مصراعيها، وبعد تضييق الخناق على السوق السوداء، ظل يشاهد ارتفاع سعر الدولار يوما بعد آخر حتى أقنع مدخريه أن الأسعار الحالية هى الأفضل على الاطلاق، وفجأة بدأ يضع العراقيل أمام العمليات الاستيرادية، حتى أتت بأثر طيب، ليقل الطلب على الدولار، ليعقب ذلك انخفاض تدريجى فى سعره ليصل إلى 15 جنيها و65 قرشاً بعد أن تجاوز العشرين، وسط ذهول الكثيرين من الناس، وتفهم من القليلين العالمين ببواطن الأمور، الذين راهنوا على صعوده مرة أخرى، حتى حقق لهم محافظ البنك المركزى مرادهم، بعد تصريحاته التى صدرت مطلع هذا الأسبوع، وقال فيها، إن مقولته بأن الدولار سيصل إلى 4 جنيهات كانت على سبيل «النكتة»، هذا التصريح غير المفهوم، والذى يضع الهزل محل الجد، فى أمر جلل، كان بمنزلة قبلة الحياة للسوق السوداء وكأنها بعثت من جديد، فقد ارتفع الدولار فيها ليصل إلى 17 جنيها و25 قرشا، ليصل الفارق بين سعر البنوك والسوق السوداء لما يقارب الجنيهين، كرد طبيعى لتصريح المسئول الأول عن السياسة المصرفية فى مصر، وغاب عنه أن أبجديات إدارة تعويم العملة المحلية تفرض عليه كمسئول عنها الحذر الشديد فى تصريحاته التى من شأنها تحويل جهود مضنية لإنعاش الجنيه، وتأكيدات تنشرها وسائل الاعلام نقلا عن مسئولين كبار بأن الفرج قريب، لحقن الناس بجرعات من الأمل كى تقويهم على تحمل التبعات المؤلمة لتعويم الجنيه، إلى واقع محزن! ولا نعلم من يتحمل الخسائر المتوقعة المترتبة على هذه «النكتة» الاقتصادية المخيبة لآمال الصابرين من «الغلابة» الذين تدثروا بالأمل وهم يشاهدون حلم انخفاض سعر الدولار يتحول إلى سراب. وأخيراً من يتحكم فى سعر الدولار، هل الآليات الاقتصادية المعمول بها فى العالم، أم أشياء أخرى مثل «النكات» التى قد تصيبنا بأزمات نحن فى غنى عنها. [email protected] لمزيد من مقالات عماد رحيم