السنون حسابيا قد تختلف عن السنين واقعيا، فحياة أى إنسان ليست هى مجرد سنوات عمره، فبعض الناس تطول أعمارهم دون أن يدخل ذلك فى حساب الحياة، وبعض الناس تبقى حياتهم دون أن يدخل ذلك فى حساب الأعمار.. فى أفق هذا المعنى وبعد أن مرّ عام على هذه اللحظة الحزينة من الزمان التى خلت برحيل رجل كان وجوده «نصرا للحياة»، بعثت به الأقدار إلى الحياة مبشرا بقيم جديدة ليزيد الحياة حياة، مُفكر تجاوز جميع الألقاب التى تسبق الأسماء عادة، وهو أهم صحفى فى القرن العشرين، لم يكن الأستاذ محمد حسنين هيكل مجرد «جرنالجى» فحسب، وإنما كان «مُعلما» من ذلك الطراز الذى لا يظهر عادة إلا فى عصور الانتقال عندما تسقط الحواجز بين المعرفة والحياة، ما من صحفى حقيقى يشتغل بالصحافة ويجرى فى دمائه عطرها إلا وسوف يحمل شيئا من الأستاذ محمد حسنين هيكل، عرفته كاتبا يُقيم فى لغته، الكلمة عنده هى أقدم الكائنات الفنية الحية، يقف من حُرمتها وشعائرها موقف الخاشع، هى موطنه الأصلى، عرفت الأستاذ «هيكل» كالفضاء يحتضن حتى الطيور التى تتمرد عليه، عرفته «مُفكرا مُضيئا» هادئ الطبع متوقد الذهن، ما رأيته مرة يغضب برفق من النقد، أو يحتج بأدب، أو يدافع عن نفسه بالمنطق المُعتدل النبرات، وإنما دائما ما كان يترفع بابتسامته المنعشة أمام التخرصات. كان «الأهرام» هو عُشه وعشقه أيضا، يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل عن الأهرام: «كان طوال الوقت بيتى، وكل من فيه أهلى، وكنت دائما أشعر بالألفة مع كل شىء فيه من البشر إلى الحجر، ومن الورق إلى الماكينات، وحتى تلك الأجيال التى لم يسعدنى الحظ بأن أتعرف إليها أو أعمل معها»، ثم يمضى الأستاذ هيكل كاشفا عن ضعفه المستحب فيقول عن هذه المعشوقة الخالدة التى وقع فى هواها «الأهرام»: (أنا عندى ضعف تجاه «الأهرام» فى كل ظروفه وأحواله، ودائما كنت موضع اتهام بأن هذا غرام أساسى فى حياتى)، إن الكاتب أى كاتب كما الطائر لا يستطيع أن يحلق عاليا إلا بمقدار ما تستطيع أجنحته أن تحمله، وإن نبرة الفرح الحقيقى لا يرن صداها إلا من وسط فروع الشجرة التى عرفها، وألفها، وهجع مع الغروب وتيقظ مع الفجر فى أحضانها. لنتعرف كيف استطاع الأستاذ «هيكل» أن يحتفظ بهذا الوهج، وهو أينما ذهب أخذ معه الضوء، وكيف كان يعتمد على أوراقه وخرائطه الملاحية الموثقة ليظل قادرا على الإبحار فى المياه العميقة ومواجهة العواصف والأعاصير، لتتوثق العلاقة بينه وبين قارئه. كان دائما ما يترفع عما لا لزوم له، أمام تخرصات أولئك الذين اتخذوا موقعهم أصفارا على شمال الوطن، ماضيهم كلنا نعرفه، وحاضرهم كلنا نراه، ومستقبلهم كلنا نرفضه، لكل منهم ضمير له ألف لسان، وكل لسان عليه ألف حكاية، كان يزعجه أن يرى قوة مصر وطاقتها الخلاقة تتسرب من شرايينها وتذهب إلى العدم بددا. «دار العودة»: تلك هى العبارة التى اختارها الأستاذ عنوانا منحوتا على مدخل مدفنه، وقفتُ وقفة المُتجمد أمام هذا العنوان أتحسس حروفا أخرى كُتبت تحته منقوشة على نفس القطعة من الرخام صماء «أسرة هيكل» أتصوره بخيالى فى« مرقده، ورحت أردد بينى وبين نفسى: هل هى مجرد غفوة بعدها تفيق، كنت أحاول أن أقنع نفسى بأنك فقط مستسلم لنوم عميق، وسرعان ما اكتشفت أننى أهذى، لكن يبدو أن بعض الهذيان عقل. ومضيت وبين جوانحى رجع صدى راح يتردد وقد جاء من الأعماق يتعثر فى الأحزان يقول: هنا يرقد إنسان عظيم، وهنا تُبلى عظامه، ما أفظع الحياة، ثم وضعت على المقبرة زهرة انعقد الدمع فى رموشها، ومضيت عائدا إلى الطريق لم يكن ثمة أحد سواى وكان الليل قد بدأ يغلق عينيه، وإذا الطرق تبدو عند نهاياتها كأنها وصلت إلى تيه لا يظهر عليه أفق!، وتخيلت أننى أسأله هامسا: من ندعو إذن لكى نطهر حقول اللغة من ألغام الكتابة؟، أسئلة أطرحها مختنقا بالتأثر، فإذا الإجابة تجىء خرساء بالعجز، يبقى أننا أمام لغز يزيده التفكير ألغازا، كل يوم يغيب عنا جزء عزيز منا، كل يوم يتلاشى أغلى ما فينا، ويظل بيننا من يطول غيابها، وحين يعود يصبح حضوره غيابا آخر، يبقى أنه رغم علمنا منذ بعض الوقت أن هذه اللحظة ستأتى، إلا أننا كنا نخشاها، لكنها الحقيقة، وأمام الحقيقة لا نملك إلا الدعاء وأن نروض أنفسنا على الفراق.. أستاذ هيكل نحن تلاميذك نتحرك الآن بعيدا، لكننا سنظل نحمل همومك ونرى الأشياء بعينيك!. لمزيد من مقالات د . محسن عبد الخالق;