«إلى كل من أحببتهم وغابوا .. لكنهم رغم الرحيل، يحيون فى الذاكرة ..». المقتطف السابق مأخوذ من افتتاحية كتاب الناقدة الكبيرة الراحلة د. نهاد صليحة, المعنون ب «ومضات مسرحية» إصدار سلسلة مكتبة الأسرة 2001، هذا المقتطف إنما يعبر عن طبيعة العلاقة بين الناقدة الراحلة وكثير من الشباب الباحثين والمبدعين ، استفادوا من ملاحظتها الدقيقة وآرائها النقدية المنضبطة ، وتواضعها الجم ، ودعمها الدائم للطلاب المحظوظين بنيل شرف الاقتراب منها ، وأحسب نفسى من هؤلاء المحظوظين القلائل. وإذا كان مصطلح «العتبات» فى مجال الأدب يستخدم للإشارة إلى مجموعة النصوص التى تحيط بمتن الكتاب من جميع جوانبه: كالحواشى والهوامش والعناوين الرئيسية والفرعية والفهارس والمقدمات والخاتمة وغيرها من بيانات النشر المعروفة التى تشكل فى الوقت ذاته نظاما إشاريا ومعرفيا لا يقل أهمية عن المتن الذى يحيط به، بل إنّه يلعب دورا مهما فى نوعية القراءة وتوجيهها فإنه من اللافت للانتباه أن عناوين المقالات النقدية المختارة من قبل الناقدة الراحلة تتسم بعنصرى الدقة والتركيز وهو ما يظهر من خلال اختيار عنوان «الملك لير فى المنصورة»، لمقالتها النقدية عن عرض الملك لير إخراج أحمد إسماعيل فيعبر العنوان عن تمتع النص الشكسبيرى بعنصرى الاستمرارية والطزاجة التى تدفع المبدعين لإعادة تقديمه بمعالجات فنية مختلفة، كما يأتى العنوان معبراً عن علاقة نهاد صليحة بمفهوم المسرح، إذ يتم خلاله «أنسنة» النص المسرحى الشكسبيرى، والتعامل معه باعتباره كائناً متحركاً يجوب العالم ويتفاعل مع الثقافات والرؤى الفنية المتنوعة ، ويتكرر ذلك فى مقالتها عن العرض المسرحى (روميو وجولييت إخراج حسين جمعة) والمعنونة ب «روميو وجولييت فى حديقة النهر». وفى مقالتها عن العرض المسرحى «الملك لير إخراج ديبورا وارنر» تشير الناقدة من خلال العنوان «الملك لير أو عندما ترتدى التراجيديا قناع المهرج» إلى أسلوب المعالجة المسرحية للنص الشكسبيرى ، حيث توضح « نهاد صليحة » ، داخل المقال المذكور أن ديبورا وارنر تتناول مسرحية الملك لير بأسلوب الكوميديا السوداء ، الذى ارتبط فى الأذهان بمدرسة العبث فى المسرح ، أساساً يخلط القسوة الدموية بالكوميديا والهزل الذى يصل فى بعض الأحيان إلى درجة الفارس، ويتكرر ذلك فى مقالتها عن مسرحية «الليلة الثانية عشرة فرقة تشيراب». وفى بعض الأحيان تتجه نهاد صليحة فى اختيار عناوين المقالات الخاصة بها إلى عنصر المفارقة للكشف عن رؤيتها للتجربة المسرحية، وهو ما يظهر من خلال مقالتها عن العرض المسرحى «شباك أوفيليا إخراج جواد الأسدى» والمعنونة ب «إطلالة على الحياة أم مشهد من القبر» إذ تأتى المفارقة من خلال التناقض بين كلمتى الحياة والقبر رمز الموت داخل العنوان ، ومن اللافت للانتباه أن المقال المذكور يتضمن إشارة متميزة إلى علاقة عنوان العرض المسرحى بالمعالجة الفنية إذ تتساءل الناقدة لماذا شباك أوفيليا وليس نافذة أوفيليا ؟ إلا أن شباك توحى بالشباك التى تقع فيها أوفيليا فى النهاية وتصطادها مع كل من هوراشيو وهاملت ؟ ، إلا أن الإيحاء بصورة شباك الصياد فى العنوان تمهد لجملة هوراشيو فيما بعد التى تقول : «دارت بنا الدوائر وأصبحنا سجناء كلودياس». وأختتم مقالى بجانب من التصدير الموجود بكتاب «ومضات مسرحية» تأليف الناقدة الراحلة «ماذا يبقى من الإنسان بعد الرحيل .. لا شىء تدركه الحواس .. لا شيء سوى صور تومض فى سماء النفس .. وأصداء كلمات تتردد فى جنباتها فتبدد وحشتها».