لأن صناعة وعي الشعوب في أزمنة الاستهداف لا تمثل رفاهية مُكملة لاحتياجات البقاء، ولأن مصر القديمة إنساناً وحضارة لم تقم على مجرد أنظمة حكم تدير قطعاناً من المواطنين، ولأن صناعة المستقبل تستلزم امتلاك أسباب الوعي بثقافة البناء، ولأن عقود ولت من الفساد والإفساد أنتجت أشباه مواطنين في شتى دروب التخصص، فإن امتلاك وعي المرحلة يحتم مراجعة سريعة لآليات الفعل الإعلامي الوطني بشقيه الرسمي والخاص، حيث إن الاستثمار في الإعلام يتجاوز كونه مجرد تجارة إلى ارتباطه مباشرة بقضايا المصير وما يشملها من وجوب التأهب للمسير في درب بقاء إنساني عسير. عبر حوار دار بين كاتب هذه السطور وبين عدد من المرتبطين بعالم الصناعة الإعلامية كان هناك شبه اتفاق على أن الجمهور المصري قد سئم حالة الزعيق الإعلامي التي اتسعت دوائرها منذ ثورة 25 يناير 2011، وتنامى اتساعها عقب ثورة 30 يونيو 2013 وخاصة مع دخول التنظيم الدولي للإخوان على خريطة الإعلام الفضائي والإلكتروني عبر فضائيات ومواقع موجهة تستهدف الضغط على الأوجاع، وبالتالي فإن المواطن بات في حاجة ملحة إلى أن يسترد إنسانيته عبر الهروب من الواقع إلى البحث عن الابتسامة التي غابت سنوات. إن هذا التصور الذي يكون ملامح الإنتاج الإعلامي العام بشقيه المباشر –وسائل إعلام-، وغير المباشر –فنون-، يشير إلى إشكالية أساسية في فلسفة صناعة الوعي حالياً، والتي تتعامل مع الإعلام باعتباره مسكن أوجاع الأمراض المزمنة ومخدِّر مطالب هموم البقاء الأساسية. في حين إن الواقع يحسم قضية الاستخدام الإعلامي من قبل خصوم الوطن باعتباره السلاح الرئيسى في عملية إسقاط الوطن، وتيئيس المواطن، وإفقاد النظام ظهيره الشعبي الذي أنتجه في 30 يونيو. وبرصد بسيط للسوق الإعلامية المنصوبة على الوعي الوطني، يمكن أن نكتشف صنوفاً شتى من المخدرات التي لا تتناسب مع حجم التحديات والمخاطر المحدقة، ويأتي في مقدمتها إعلام (التوريط)، وهو إعلام محلي الصناعة يبدو متبنياً لخطاب الدولة ومدافعاً عن نظام الحكم وأداءته، غير إنه يفرط في أمانيه ويسارع في تنبؤه، ويغالي في دفاعه، ويفجر في خصومته، حتى تغدو أداءته مادة خصبة لكل متربص يستشهد بها مدللاً على عكس المنشود منها، لينسحب ما فيها من ادعاء وتلفيق على كل أداء للدولة! وصنف إعلامي مُؤَزِم مُوَتِّر يسارع في إصدار الأحكام والانحياز لمعتقده ويغالي في انحيازه معلناً اعتزاله الفعل الإعلامي إن لم يثبت صحة ما يعلن، وبمجرد مرور الحدث وخفوت أضواء المتابعة عنه يطوي صفحته دون اعتذار عن خطأ أو تنفيذ لوعد!. وصنف إعلامي مُخَوِّن يرى نفسه الأمين الوحيد على الأوطان، وصاحب الحق المطلق في إصدار الأحكام، والمخوَّل الوحيد بامتلاك صكوك الوطنية، فيُعمل سكينه الإعلامي في بدن اللُحْمَة الوطنية ناشراً ثقافته باعتبارها شعار المرحلة لتنتقل عبر الشاشات والمقالات إلى الشوارع والمقاهي والبيوت حاملة فيرس الفُرقة ليغدو كل نقاش حول أي قضية صراع ديوك تغادره أطرافه مثخنة بالجراح. وصنف إعلامي مُشَتِّت مُشّوِه يحترف البحث خلف كل مستور، والتنقيب داخل كل تشوه، هاتكاً أستاراً ساترة للعيوب وكاشفاً نماذج للتشوهات الشاذة النفسية والخلقية، ومقدماً نماذج جديدة لتطور الشذوذ الناشيء بفعل عقود الفساد والإفساد. وتتطور حالة التخدير الإعلامي لتحمل المواطن بعيداً عن خانات الواقع عبر صنوف جديدة تقدم (كوكتيلاً) من المخدرات مازجة بين التغريب والتسطيح والتغييب، في تماه تام مع نماذج إعلام العولمة الغربية عبر ديكورات منفصلة عن بيئتنا وفنون وافدة على مجتمعاتنا، وقضايا لا تتماس مع واقع المواطن .. أي مواطن، لتتحول الشاشات إلى ثقب أسود يحمل المواطن إلى فراغ مبهر الشكل خاو من أي مضمون، ويصبح الضحك هدفا لا يُنال. وبين حالة التخدير المفروضة إعلامياً والمستهدفة استثماراً باعتباره السلعة المضمونة التسويق تحملنا ذاكرة صناعة الوعي المصري إلى نماذج متعددة تقدم لنا طرفاً منها (قناة ماسبيرو زمان)، لتؤكد أن الأزمة ليست في فقر الإنتاج قدر كونها غياب الرؤية الحاكمة لصناعة الإعلام، والمؤهلة لأن يمتلك صناعة وعي المرحلة وأمانتها، وهو ما يستوجب مراجعة سيادية عاجلة للموقف، وتفعيلاً واجباً لاستحقاق خريطة الطريق المصرية المعلنة في 3 يوليو 2013، والتي تنص على (ميثاق شرف إعلامي وطني للمرحلة)، بات خروجه للنور نقطة حرجة في تقويم المسار الوطني نحو الجمهورية الجديدة، ليتمكن الخطاب الإعلامي من مجاراة احتياج المواطن إلى هوية تحميه من الذوبان في أتون التغريب، وديناً يزرع فيه الإيمان محبة تؤهل للتوحد، وثقافة تحمله على تبني البناء عقيدة، وترفيهاً يرسم على الوجوه ابتسامة تقاوم الألم بوعي الأمل، فبالتأكيد لا يصح أن يكون التنبه في زمن الاستهداف هو الفرض بأمر وطني مباشر، بينما تَشيع في دروب الوطن حالة تخدير بأمر إعلامي مباشر!. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى;