فى العدد الأول من مجلة «الطليعة» الصادر فى أول يناير من عام 1965 نشرت مقالاً عنوانه «البطل فى الدول النامية». وبعد أسبوعين من نشره قال لى لطفى الخولى رئيس تحرير المجلة إن تقريراً عن مقالك أُرسل من أحد الأجهزة السيادية إلى الرئيس جمال عبد الناصر. وجاء فى التقرير أن الجهاز حائر فى فهم المقصد من المقال إذ تساءل: هل صاحبه منحاز إلى البطل الفرد أم إلى الجماهير؟ وأظن أن الحيرة مردودة إلى إثارتى تساؤلات عديدة. مثال ذلك: ما العلامة التى إليها نشير ونقول هذا هو البطل؟ هل هذه العلامة تخص البطل أم تخص المجال الذى فيه يتكون البطل؟ والمقصود بالمجال جملة العوامل التى تكون سببا فى إيجاد ظاهرة معينة، وهى هنا بطولة البطل. وإذا كانت الثورة تهدف إلى تغيير جذرى فى المجتمع فهل فى إمكان البطل أن ينفرد بإحداث هذا التغيير الجذرى. أظن أن هذه الأسئلة كانت مبرراً لما أبداه ذلك الجهاز من حيرة. إلا أننى أظن أن تبرير هذه الحيرة مردود إلى أسباب سابقة على السنة التى نشر فيها هذا المقال. ففى عام 1964 قال وزير الحربية شمس بدران للرئيس عبد الناصر فى مكالمة تليفونية: أستطيع أن أقيلك من مكتبى. وهى تعنى ضمنياً أن عبد الناصر لم يعد حاكماً للدولة. ولا أدل على ذلك من أنه فى ذلك العام كان قد بدأ فى تأسيس حزب سرى سماه «الحزب الطليعى» والذى من أجله أصدر مجلة «الطليعة» لتربية كوادر الحزب الجديد تربية فلسفية وسياسية. وإذا قرأت كتاب «فلسفة الثورة» بقلم جمال عبد الناصر فستجد أن فكرة البطل هى الفكرة المحورية. مثال ذلك قوله إنه قد اكتشف بذور الثورة فى نفسه، وبأنه فى فترة من حياته قاد مظاهرات فى مدرسة النهضة للمطالبة بالاستقلال التام. ولا أدل على ذلك أيضاً من قوله إنه تأثر برواية توفيق الحكيم «عودة الروح» دون أن يشير إلى مكمن ذلك التأثر، أما أنافأظن أن سبب ذلك التأثر مردود إلى عبارة وردت فى الرواية «نحن فى انتظار خوفو جديد»، اى فرعون جديد. ومبررى فى هذا الظن مردود إلى اعتقادى بأننا ورثة الفراعنة منذ سبعة آلاف سنة وأن عبد الناصر هو واحد من هؤلاء. ومع ذلك كله فقد دار فى ذهنى سؤال هو على النحو الآتى: هل البطل هو سمة الدول النامية أم أنه سمة الدول المتقدمة كذلك؟ جاء الجواب فى كتاب صدر فى عام 2015 عنوانه الرئيسى «تشرشل العامل الأوحد» وعنوانه الفرعى «كيف صنع التاريخ رجل واحد» لمؤلفه بوريس جونسون الذى كان عمدة لندن من 2008 إلى 2016 ثم عين وزيراً للخارجية فى عام 2016 فى حكومة تريزا ماى بسبب قيادته لحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى. يقول فى مفتتح كتابه: لولا تشرشل لانتصر هتلر بكل تأكيد. إن أهمية تشرشل فى هذا الزمان مردودة إلى أنه هو الذى أنقذ الحضارة بل هو الوحيد الذى كان فى إمكانه فعل ذلك، وهذا على الضد من قول المفكرين الماركسيين أن التاريخ تصنعه القوى الاقتصادية التى تخلو من العامل الفردى. ثم يختتم كتابه قائلا: من الميسور القول إن ثمة آخرين غير تشرشل قد صنعوا التاريخ، إلا أن هؤلاء قد وجهوه إلى الأسوأ مثل هتلر ولينين. إن تشرشل لا مثيل له ولن يكون. ومع ذلك أيضا فقد صدر فى عام 2016 كتاب عنوانه «السياسة الشعبية فى صياغة الشرق الأوسط الحديث» لمؤلفه المفكر السياسى الانجليزى جون شالكرافت، وكان الملهم الأكبر فى تأليف ذلك الكتاب الشعار الذى تبنته ثورات الربيع العربى «الشعب يريد إسقاط النظام» وكان مغزاه أن الوضع القائم قد انتهى إلى حالة مقززة ليس فى الإمكان احتمالها وقد نجح فى إزاحة أربعة ديكتاتوريين من تونس ومصر وليبيا واليمن. إلا أن البديل لم يكن سوى شعار «عيش وكرامة وحرية» وهو بديل عاجز عن أن تكون لديه فاعلية التغيير. ومع ذلك فقد جاء بديل من خارج النسق الثورى وهو حركة الإخوان المسلمين التى استولت على الحكم ودمرت الهوية المصرية من أجل التمهيد إلى تأسيس دولة الخلافة الاسلامية بمفهوم لا يتسق مع منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية. ولا أدل على ذلك مما حدث من تدمير مركز التجارة العالمى بنيويورك فى 11/9 وهو أعلى مراحل تلك الثورة. وقد تم هذا التدمير من قبل تنظيم القاعدة المنتمى إلى حركة الاخوان المسلمين، ومن ثم توارى البطل و لكن بقيت الجماهير إلى أن جاء 30 يونيو 2013 عندما انتفض ثلاثون مليوناً مطالبين مرة أخرى بإسقاط النظام مع استدعاء بطل كان مراقباً لمسار ثورة الربيع المصرية وكان لقبه فى حينها الفريق عبد الفتاح السيسى. والسؤال إذن: كيف يمكن تقييم العلاقة بين هذا البطل والجماهير؟ الجواب عندى أنها علاقة عضوية بمعنى الاتفاق على أن العدو المشترك هو حركة الإخوان المسلمين، والافتراق بعد ذلك بمعنى وضوح رؤية البطل وغموض رؤية الجماهير. فالبطل لديه رؤية مستقبلية لمصر فى مسار القرن الحادى والعشرين المحكوم بمنجزات الثورة العلمية والتكنولوجية، أى المحكوم برؤية علمية خالية من أى نكهة أصولية دينية ولكن بلا نخبة ثقافية مواكبة لهذه الرؤية لأنها كانت تغط فى سُبات دوجماطيقى. ومن هنا تكمن زنقة البطل وهى فى كيفية الخروج منها، وذلك لن يكون إلا بإبداع البطل لنسق جديد مناقض للنسق القديم الذى تم إسقاطه وذلك من أجل إنقاذ مصر وانقاذ الحضارة. لمزيد من مقالات مراد وهبة;