غالبا ما يفضى التأمل العقلانى إلى زيادة الألم الإنسانى، ولو كان ألما نبيلا، إذ يكشف الوعى العميق عن محدودية العالم، وعن الفناء المحيط بالوجود من كل جانب. فمثلا، تبدو المخاطر البيئية مؤرقة لعلماء المناخ المنشغلين بهواجس ارتفاع درجة الحرارة على نحو قد يفضى إلى مشكلات كالتصحر من جانب، أو الغرق والفيضان من جانب آخر، بينما الآخرون لا يعيرون تلك القضايا أدنى درجات الاهتمام. وعلى المنوال نفسه تمثل المخاطر الحيوية الكامنة فى نشوء فيروسات مستحدثة أو تحور فيروسات قديمة هما كبيرا لعلماء البيولوجيا بينما لا يبدى العموم اكتراثا بها اللهم إلا إذا اتخذت شكلا وبائيا يهدد حياتهم على نحو مباشر. وهو ما ينطبق على علماء الجيولوجيا المهمومين بأحزمة الزلازل ومخاطر البراكين فى شتى مناحى الكرة الأرضية، فيما لا يأبه سكان هذه المناحى نفسها بتلك الهموم. وهكذا يبدو الوعى حليفا للألم و"التفكير" قرينا "للشقاء" فمن زادت معرفته زاد ألمه نتيجة كفاحه المضنى لبلوغ حقيقة عصية على الإدراك، والوصول إلى يقين لا يمكن بلوغه فى هذا العالم، بما يسببه ذلك العجز من ألم، فالإنسان الذى يتعقل وجوده غالبا ما يتألم ونادرا ما يفرح، إذ يسعى دوما إلى فهم الحياة واكتشاف مغزاها بدلا من أن ينعم بها، عبر التجاوب مع تلقائيتها الظاهرة وطلاقتها المريحة. وفضلا عن الوعى بمحدودية العالم، ثمة وعى بقصور الإنسان، ذلك الكائن الهزيل بيولوجيا رغم عظمته السيكولوجية، والقاصر بدنيا قياسا إلى معظم الكائنات الحيوانية رغم تفوقه الأخلاقى عليها، كونه الكائن الواعى القادر على التمييز، الكائن الحر القادر على الاختيار، فضلا عن كونه الكائن التاريخى الحائز موروثا وذاكرة يقيس بحسبهما واقعه ويصوغ على هديهما مستقبله. يفرض علينا هذا الوعى أن نراقب أنفسنا، أن نقومها إذ ما أدركنا قصورها. يصيبنا ذلك الوعى بالقلق والحزن لأننا ربما فشلنا فى مهمتنا أو نجحنا فيها جزئيا، بينما يمرح الآخرون الذين افتقدوا لهذا الوعى رغم أن قصورهم ربما كان أعمق. وهنا تطالعنا تلك الظاهرة الواقعية، حيث الإنسان البسيط غالبا ما ينجح فى نسج علاقات دافئة مع الآخرين على شتى الأصعدة: فى الصداقة والحب وغيرهما من أنماط التفاعل الإنساني، فالتلقائية البسيطة تمكنه من التعامل مع الآخرين كما هم بطبائعهم التى قد تنطوى على تناقضات غير مفهومة له ولكنه لا يكترث بها، أو تحتوى على عيوب لكنه لا يتوقف عندها ولا يحاول أن يسائلها، قدر ما يتكيف معها ويستمتع بمفارقاتها، فيما يفرض الوعى على أصحابه مساءلة تلك العيوب، والكشف عن مصادر تلك التناقضات التى يجدونها لدى الآخرين، ما يجعل منهم موضع تأمل بارد، وتساؤل مندهش إن لم يكن موضع اتهام بالقصور، ويفرض حاجزا يحول دون التعاطف التلقائي الودود معهم. بل إنه قد يفرض على الإنسان، إذا ما كان باحثا أو مفكرا، تجاوز فردية المحيطين به إلى محاولة تعميم المغزى الكامن فيهم، ساعيا من ثم إلى تجريد نظريات علمية أو قوانين معرفية حيال الطبيعة الإنسانية، ما يزيد من شعوره بالوحدة والعزلة، وجميعها مشاعر تصير معلما على ألم الوعى. ولعل هذا هو المغزى الذى كشف عنه شاعر الرومانسية الإنجليزية الكبير اللورد "بايرون" فى تلك الأبيات الخالدة: الأسف معرفة.. فأولئك الذين يعرفون الأكثر يفجعون أعمق تفجع على الحقيقة المحتومة.. إن شجرة المعرفة ليست هى شجرة الحياة. وعلى العكس يبدو الجهل مثيرا للفرح ودافعا للانطلاق، فمن لا يدرك محدودية العالم يتصرف وكأنه فى بحر من الأمن النفسي المطلق، ومن لم يدرك قصور الإنسان ومخاطر العدم التى تحد وجوده، يسلك وكأنه فى فسحة أمل لا تنتهي. هذا الجهل يبقى الإنسان فى موضع الطفل الذى لا يخشى من شئ ولا حتى من النار المشتعلة؛ كونه لا يدرك مخاطر اشتعالها وقدرتها على الإحراق، ولا يحمل هموم المرض لأنه لا يدرك عذاباته، ولا حتى الموت كونه لا يدرك معنى العدم، ولذا لا يتوقف عن مرحه. ذلك الوضع الطفولى من الوجود هو ما عاشه كل إنسان سلفا، ولكن البعض يفارقه سريعا فيما يبقى البعض فيه طويلا، مستمعا بسذاجته، متحررا من مخاوفه، غير عابئ بالمسئولية الملقاة على عاتقه. ولكن هل يعنى ذلك تبجيل الجهالة وهجاء الحكمة؟ وما هو الأجدى لعالمنا: حكماء تعساء أم سذج سعداء؟. لا نقبل هنا ببساطة ذلك القول الفلسفى القديم على لسان أرسطو بأن السعادة تكمن فى الفضيلة، وأن الحكمة هى منتهى الفضائل، ما يعنى أن الحكمة هى السعادة، كونه ينبنى على أساس غياب المسافة الفاصلة بين معرفة الخير وبين السير فى دروبه، وأن الشر ليس إلا نتاجا للجهل بمواضع الشر أو موضوعاته، فما إن يعلمها الإنسان حتى يتجنبها، وما إن يدرك مواطن الخير حتى يقبل عليها، وهنا يعم الخير فى ركاب الحكمة، ثم تأتى السعادة لتظل الجميع تحت خيمتها. وظنى أن هذا التصور يبقى مثاليا تماما، لأن معظم الشرور تنبع من الطبيعة الغريزية، المندفعة نحو اللذة القريبة، والتى تكاد تمثل الثقب الأسود فى الكائن الإنساني، وهو ثقب قادر على قمع روحه، والتهام فضائله، حتى نجده وقد تخلى عن إنسانيته حينا، وعن إيمانه حينا آخر، فيخون هذا ويجور على ذاك ميلا مع الشهوات القريبة التى ما إن يسمو عليها، حتى يستعيد طاقاته الفعالة والإيجابية كإنسان، بغض النظر عن نوع الاعتقاد الدينى أو الانتماء الوطنى. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;