قضى الأمر وسبق السيف العذل بعد أن أبصر التعديل الوزارى النور، عقب عملية مخاض عسيرة استغرقت وقتا طويلا، وبمقدورنا رصد ملمحين لافتين في هذا التعديل، الأول التعجل في استصدار أحكام على الوافدين الجدد وصلاحيتهم لشغل حقائبهم الوزارية فور الإعلان عن أسمائهم، وضعف الرغبة في منحهم فرصة لتقديم أوراق اعتمادهم للمواطنين الذين بيدهم الحكم النهائي عليهم إما سلبا أو إيجابا. الملمح الثانى هو غياب الحزبيين عن التشكيلة الحكومية الجديدة، فالاختيارات كانت محصورة بين الأكاديميين وبعض مَن عملوا في الجهاز الحكومى في فترات ماضية ولديهم معرفة وخبرة لا بأس بها بدروبه ومسالكه. الملمح الثانى هو بيت القصيد، ولا ندرى بطبيعة الحال ويقينا ما إذا كان قد ورد هذا الخيار من الأصل على ذهن المسئولين عن تجهيز قوائم المرشحين للالتحاق بحكومة المهندس شريف إسماعيل أم لا، لكن يبقى أن الخيار لم يسقط ولم يفت أوانه، ويظل صالحا، فإن كنا قد أغفلناه في التعديل الوزاري فأمامنا فرصة أخرى سانحة علينا ألا نفوتها ونهدرها، وهي المحليات التي ندرك جميعا ما بها من مثالب وتلال من المشكلات المتوارثة، وما تحتاجه من جهد جبار لمعالجتها يوجب مشاركة كل الاطياف والتيارات السياسية والحزبية فيه على قلب رجل واحد. والاختيار سيكون من بين الأحزاب الممثلة في مجلس النواب وليس من بين حركات وجماعات تناصب وطنها وشعبها العداء، ولا تفكر سوى في الهدم وإشاعة الفوضى والانفلات بدعوى عدم رضاها وعدم اقتناعها بما تفعله الحكومة وأجهزتها، وأننا لا نسير على الطريق الصحيح. إسناد مناصب بالمحليات للحزبيين كخطوة أولى سيعود بفوائد جمة على البلاد، فهو سيوسع وسيزيد من رقعة البدائل المطروحة للمفاضلة فيما بينها عوضا عن الدوران في دائرة ضيقة جدا تجبرنا على الانتقاء منها، كلما استدعت الضرورة، واحيانا لا يكون المتوافر فيها مما يرضى المواطن وصانع القرار، وتكون نظرية أحسن الوحشين هي السائدة، وتابعنا عن قرب خلال الأسابيع الخمسة المنصرمة صعود وهبوط بورصة الموعودين بتوزيرهم، وأن تأخر الإعلان عن التعديل الوزاري مرده كثرة الاعتذارات، خوفا من الاستبعاد في أى لحظة، والراتب الزهيد الذى يتقاضاه معالى الوزير، أو أن يتسبب المنصب الذى لم يعد أمنية غالية، كما كان، في دخول السجن وتلطيخ السمعة، وعدم احتمال النقد الإعلامى. سنجنى أيضا فائدة اشراك الأحزاب في المسئولية الوطنية، فمشاركتها ستجعلها مطلعة على الحقائق على أرض الواقع، فما أيسر اتهام الحكومة بالتقاعس والإهمال وعدم القيام بمسئولياتها بالصورة الواجبة والمنتظرة، لأن من يوجه الاتهام غير مطلع على دقائق الأمور والمعوقات في حجمها وشكلها الحقيقى، وستبطل حجة بعض الأحزاب المرتكزة على وجود تعمد لتهميشها وجعلها مجرد ديكور للزينة دون دور عملى، وفى هذا المقام يسقط التصنيف، فحينما أختار من بين حزبيين سيكون التركيز في مدى كفاءته وإلمامه بأبعاد المكان الذى سيتولى فيه المسئولية، وما لديه من أفكار خلاقة تستطيع وضع حد قاطع للمتاعب والهموم المتكاثرة في المحليات، وليس لكونه من أهل الثقة المؤيدين، أو معارضا صنديدا، فكلاهما يقف على أرضية وطنية واحدة، ولا يشغله سوى إنهاض مصرنا من عثراتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية، واستعادة مكانتها الحضارية والسياسية المستحقة. وعندما ينخرط الحزبيون في المحليات من موقع المسئولية سيؤدى ذلك لتفتح مسام الحياة السياسية التي ستتدفق الدماء في اوصالها وشرايينها، وسوف ينتعش العمل الحزبى الذى سيقود لتمتين وتعضيد الأحزاب وسيكون حافزا على التجويد والتطوير والمنافسة الصحية فيما بينها على اخراج أفضل ما لديها من اطروحات ومساهمات تخدم الشعب المصرى ومستقبله، كما ستسهم في إقامة حياة حزبية قوية ومستقرة تصمد أمام الأنواء والعواصف العاتية، فمنذ ثورة 1952 لم نتمكن من بناء نظام سياسى قوى متماسك وظللنا ندور في فلك الحزب الواحد الصريح وغير الصريح دون رؤية تعددية حزبية حقيقية، وتداول للسلطة بين الأحزاب المتنافسة، وهو ما قاد إلى خواء سياسى رهيب وقلة البدائل المتاحة وتظهر تجلياتها عند حديثنا عن تعديل في الحكومة، أو أي منصب شاغر نبحث له عمن يشغله. ومما يؤسف له أننا مازلنا نعانى توابع هذه الظاهرة، فعلى الرغم من الكثرة العددية للأحزاب في السنوات التالية لثورة 25 يناير لدينا أكثر من 90 حزبا فإنها غير مؤثرة ومعظمها يقتصر وجوده على شقة معلق عليها لافتة تحمل اسمه وليس له نشاط، فكثيرون اتجهوا دون دراسة لتأسيس أحزاب ربما لمسايرة هوجة تشكيلها بعد 25 يناير، ووجود حالة من النهم والعطش للعمل الحزبى الغائب، لقد آن الأوان لكى نعيد صياغة حياتنا الحزبية على أسس جديدة، وتخليصها من مرض التشرذم والتفتت المصابة به الذى يفقدها كثيرا من مقومات الاستمرارية والثقة فيها، وعندنا نموذج حزب المصريين الاحرار المنقسم على نفسه وتفرغ كل جبهة فيه للقضاء على الجبهة الأخرى وتشويهها بشتى السبل الممكنة. كذلك على أحزابنا الانتباه إلى محاولات اختراقها من قبل جماعات التطرف والإرهاب وفى مقدمتها جماعة الإخوان الإرهابية التي لها تاريخ وباع معلوم في عمليات الاختراق والتغلغل بين الأحزاب للتخفى داخلها، وسعيها للسيطرة عليها لتكون ذراعا لها تناور بها وقت اللزوم. إن المرحلة الراهنة تستدعى تكاتف الجميع بالحكومة وخارجها، وأن نكون على قلب رجل واحد، وأن نعمل معا سواء كنا من المعارضين أو المؤيدين من أجل نهضة مصر، واصلاح حال المحليات لبنة من اللبنات المهمة فى سبيل النهوض، وعلى المختصين بالسهر على شئون المحليات التفكير في بديل الحزبيين عله يكون سببا في تنقيتها من الشوائب العالقة بها وتحول دون نهضتها. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;