كان فى عصر البطالمة ثلاث عقائد تحكم القطر المصري، الديانة المصرية القديمة بمعابدها وكهنتها وفكرها اللاهوتى القديم، الذى كان قد ترسخ فى أذهان المصريين.والعبادة اليهودية التى كانت منتشرة نتيجة وجود اليهود فى أماكن متفرقة من مصر، فقد كان لهم وجود كبير فى الإسكندرية حتى إنهم أخذوا مميزات خاصة فى عصر البطالمة وأصبحوا قوة كبيرة فى الإسكندرية بجانب وجودهم أيضا فى بابليون (مصر القديمة) ووجودهم فى أماكن أخري.والفئة الثالثة هم اليونانيون البطالمة الذين كان لهم وجود كثيف أيضا فى الإسكندرية ولكنهم كانوا منتشرين أيضاً فى ربوع مصر. وقد أيقنوا منذ دخول الإسكندر الأكبر أن المصريين لا يمكن أن يقبلوا بملك أو حاكم يفقدهم هويتهم، وكانت العبادة المصرية القديمة هى ركن مهم فى الشخصية المصرية، إذ أنها كانت متغلغلة فى كل أمور الحياة كما سنري، لذلك قد صنعوا آلهة توفيقية تجمع بين الشكل الخارجى للرموز الآلهة المصرية، وإن كانت تحمل الروح اليونانية مثل عبادة سيرابيس التى أقاموا لها معابد فى كل الأماكن بمصر، وخاصة فى الإسكندرية حيث معبد السيرابيون الذى كان ملاصقا لمكتبة الإسكندرية، والإله سيرابيس يمثل صورة توفيقية بين أوزوريس والإله اليونانى ديونسيوس، وفى حقيقة الأمر لم تكن عبادة سيرابيس تمت للفكر الروحانى المصرى من قريب أو بعيد، فقد كانت عبادة وثنية كاملة. فقد اعتادوا أن يأخذوا صور شخصيات ورموز لآلهة مصرية ويضعوها ضمن صور الآلهة الوثنية مثل عبادة إيزيس، وهذا ما جعل كثيرا يخطئ فى تصور وثنية العبادة المصرية القديمة. ومما يؤكد هذا وجود معبد يونانى عام 300 ق.م. لإيزيس المصرية وزوجها سيرابيس وليس أوزوريس، كما أن اليونانيين شبهوا إيزيس ب «أفروديت وهيرا». وكان هذا لتهدئة المصريين حتى لا يشعروا بأنهم تحت حكم أجنبي، فقد قامت ثورات مصرية ضد البطالمة وبعد إخمادها حاول الحكام التقرب من المصريين باحترام عقيدتهم، وكانوا يقدمون القرابين فى المعابد المصرية، كما منحوا هبات كبيرة للكهنة والمعابد، واعتبروا المعابد أماكن إيواء للاجئين. وهذا عكس ما فعله الرومان حين حكموا مصر، الذين أرادو فرض الآلهة الرومانية الوثنية على المصريين ولم يدركوا أن عبادة الإله الواحد هى أحد جذور الهوية المصرية. وكانت الديانة الرومانية خليطا غير متجانس وغير مهضوم فى شكل واحد، ففى جذورها تكمن عبادات سحرية نازحة من العصر الحجرى بجانب العبادات الوثنية وعبادة الأرواح. ولم تكن لآلهة روما عمق فلسفى روحاني، وقد كانت بنية الدين الرومانى متصدعة وغير منسجمة ومليئة بالأشكال والطقوس الوثنية، هذا بجانب فرض عبادة الأشخاص ممثلة فى عبادة الإمبراطور. المصريون تمسكوا بهويتهم ضد الآلهة الوثنية الوافدة مع الرومان فقد كانت الروحانية المصرية فى جذور كل الحياة، ففى وصايا سجلها الكاتب المصرى «هودب ندب رع» يقول: «إن الملك الذى هو أبدى ساكن فى أجسادكم أنه الرب، فاتخذوه ملاذا لكم فى قلوبكم، وهو يعرف خفايا القلوب، وعيناه تفحصان كل الناس. أنه ينير أرض مصر أكثر من الشمس، أنه يجعل أرض مصر أكثر خضرة، ويملأ مصر بالقوة والحياة، فهو الخالق فمن يخشاه يهرب من غضبه، صارعوا إذن من أجل اسمه ودافعوا عن سيطرته». وقد عاش المصريون آلاف السنين يتعلمون الحكمة والحضارة ممزوجة بالفكر اللاهوتي، ففى أحد التعاليم والوصايا تقول: «لا تزعجوا أحدا من الناس لأن إرادة الله أنهم يعيشون فى رضا، فإذا اتضعت وأصغيت إلى الحكماء ترضى الله، وعامل تابعيك بأحسن ما فى مقدورك هذا هو الواجب الموضوع من ربهم». ولعل السر فى استمرار المجتمع المصرى فى الحفاظ على هويته الداخلية هو قوة ومتانة العائلة المصرية، ففى فترات الاحتلال الأجنبى اعتاد المصريون أن يحتفظوا بهويتهم ومصريتهم داخل الأسرة ليحتفظ الوطن بسلامة بنيانه بالتسليم والتقليد العائلي، فقد كانت الأسرة المصرية هى الدعامة القوية التى لم تستطع قوة الاحتلال الأجنبى أن تخترقها. وكانت الحياة الاجتماعية للمصريين هى سر الترابط والتجانس المجتمعى للهوية المصرية، ففى توجيهات الوزير الحكيم «بتاهودب» إلى ابنه يوصيه قائلا: «يا بنى إن كنت رجلا ناجحا رسخ بيتك، اتخذ لك زوجة وأجعل منها سيدة قلبك،أسع لتفريحها بالملابس الجميلة والحلى الرقيقة، هكذا بالحنان والحكمة أولاً ثم بالترف والرفاهية». هذا بجانب الحضارة العلمية التى كان يتمتع بها المجتمع المصرى القديم، والقيمة الحضارية الكبيرة، وقد أدرك الرومان أهمية مصر كمستودع للقمح والغذاء للإمبراطورية، كما أنها فى ذلك الوقت كانت من أهم مصادر المال لتدعيم الخزانة الرومانية التى نضبت من جراء الحروب الأهلية، هذا ما جعل الإمبراطور ينشر الجيش الرومانى فى كل ربوع مصر حتى لا تقع فى يد المنافسين، واعتبر مصر إحدى الولاياتالرومانية، وقد استطاعوا أن يسلبوا أموال وغنى مصر ولكنهم لم يستطيعوا أبدا أن يسلبوا هوية المصريين أو يطمسوا حضاراتهم، وهذا ما هيأ مصر لقبول المسيحية، فمحاولة فرض الآلهة الوثنية والعنف الرومانى فى حكم المصريين مع العمق والحضارة والروحانية المصرية القديمة أدت إلى استجابة المصريين للكرازة المسيحية وبداية عصر الإيمان المسيحي. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات ◀ القمص أنجيلوس جرجس