ظُلِمَ الأدبُ الشعبيُّ شرقًا وغربًا عبر قرون باعتباره لا يستحق أن يوضع مع ما تتحيز له الجماعة الثقافية، أى الأدب النُخبوى أو الأدب الفصيح. وتسبب هذا فى فقدان الأمم، خاصة الأمة العربية، كثيرًا من المنافع القيميَّة التى كان يمكن توظيف الثقافة الشعبية للاستفادة منها بالاهتمام بهذا المنجز الحضارى المتجلى فى نصوص الأدب الشعبي، ووضعه موضع الدرس والتحصيل. نصوص الأدب الشعبى لا تزال حُبلَى بكل ما تحمله دلالات الخطاب الثقافى من معانٍ؛ فهى دون شك خطابات، سواء بالبُنَى التشكيلية العامة لها، أو مضامينها، فى موازنة المعانى المعجمية لكلمة خطاب، أو حتى موازنة نصوص الأدب الشعبى بتلك المعانى الحديثة لاصطلاح الخطاب، تلك التى أدلى بها فى النصف الثانى من القرن العشرين كلٌّ من «فرديناند دى سوسور» أو «تشومسكي» أو «بنفينست» أو غيرهم. ونصوص الأدب الشعبى بتركيباتها «الشكلمضمونية» تتماهى مع الوصف/ الثقافى الذى يمتاز به مصطلح الخطاب الثقافى عن غيره من الاصطلاحات. فسواء فُهِمَت الثقافة وفق تايلور عبر وظيفتها المثالية المرتبطة بوصف القيم الموجودة فى الحيوات والأفعال الإنسانية، أو من خلال وظيفتها التوثيقية التى تجلى فكر وتجارب الإنسان عبر التدوين التفصيلي، أو عن طريق الوظيفة الاجتماعية للثقافة التى تُعنى بوصف المعانى والقيم الظاهرة أو الضمنية فى طريقة حياة ما أو فى ثقافة ما، فإنها تعد عبر كل هذه المعانى جزءًا أومكونًا رئيسًا من مكونات نصوص خطابات الأدب الشعبي. ورغم ما يبدو من منطقية هذا الطرح، فالاستفادة بما تطرحه الخطابات الشعبية من قيم ومباديء على كل المستويات بدا قاصرًا عما يجب أن تكون عليه؛ فلم يكن التعامل مع تلك الخطابات يهدف للاستفادة منها عبر شتى الوسائل، إنما كانت تقدم على أنها مستوى من الخطابات لا يرقى لتلك المنازِل التى تشغلها خطابات الأدب الفصيح، أو على أقصى تقدير كانت تقدم هذه الخطابات الشعبية على استحياء باعتبارها جزءًا من مكونات المجتمع العربى الثقافية، دون الاستفادة مما تحمله من مكونات وبنى فكرية تستحق الاعتناء والإشادة. على سبيل المثال، يمكن لأى مدقق فى كيفيات استيعاب هذه الخطابات الشعبية القيِّمة من قِبَل المؤسسة الرسمية ملاحظة أنها من حالات الاستبعاد أو التهميش؛ وما يقدم للطلاب فى مراحل التعليم فقط من ذلك التصنيف الذى يسمى بالأدب النُخبوي، بدءًا من اختيار النصوص الأدبية المقدمة للطلاب أو الرواية و القصة التى تدرس لهم، وكأن هذه النصوص التى أبدعها فرد من أفراد الجماعة الثقافية أثمن وأقيم من تلك النصوص الشعبية التى تمثل ضمير ووجدان أمة بأكملها!. وما يتم طرحه أو تبنيه من عروض مسرحية فى مسارح الدولة الرسمية يصنف فى معظمه ضمن ما يسمى أيضًا بالأدب الرسمي، وكأن الدراما التى يؤلفها فرد أثمن وأقيم من تلك التى قدمتها الجماعة الإنسانية فى أساطيرها وسيرها وحكاياتها الشعبية؛ تلك التى لا تقبل عروضها إلا إذا تعرضت لما هو فردى دون ذلك الجمعى الأصلى الكامن فى طيات هذه النصوص. والتساؤل الجدير بالذكر، لماذا لا تتم الاستفادة من هذه النصوص الكنوز الشعبية لإصلاح الخواء الثقافى التى تحياه الأمة العربية فى عصرها الحديث؟ وتأتى الإجابة جلية إذا تم ربط هذا القصور وعدم الإفادة من الأدب الشعبى كونه خطابات ثقافية قيمة تعانى ما يعانيه الخطاب الثقافى العربى فى عمومه؛ باعتباره خطابا انتقائيا ومزدوج المرجعية، يعود أصحابه إلى مرجعيات قديمة منتقاة بشكل أيديولوجي، تميل كفته لصالح الرسمى على حساب الشعبى من ناحية، أو لمرجعية غربية منتقاة وأيديولوجية أيضًا ترجح كافة كل حداثى يباين طبيعة مجتمعاتنا العربية من ناحية ثانية. لقد أوجدت هذه التيارات الفكرية المتعارضة مجموعة كبيرة من السلبيات التى أحاطت بالتعامل مع الخطاب الشعبى باعتباره خطابًا ثقافيًّا؛ حيث ذهب كل طرف منهما للبحث عن مآربه بعيدًا عن الإبداع الجمعى وخطاباته المتجذرة فى الثقافة العربية، مضيفًا أيديولوجيته الذاتية على ما يبدعه فى حالة من اللاوعى بقيمة ما تحمله تلك الخطابات الثقافية الشعبية. كل ما سبق يحتاج مجموعة حلول تتمثل فى إعادة تجذير الخطاب الثقافى الشعبى كجزء أصيل من المكون الثقافى العام بدءًا من أولى مراحل التعليم ومرورًا بما يتلقاه الإنسان العربى مسموعًا ومرئيًّا ومقروءًا عبر العديد من الوسائط الإعلامية وغيرها فى فترات حياته المتتالية. وهذا يتطلب قيام وزارة الثقافة المصرية بالتعاون مع وزارتى التربية والتعليم والإعلام بوضع خطة مشتركة لتفعيل الأدب الشعبى ونصوصه كجزء رئيس من تلك الخطابات الثقافية التى يجب أن تُقدم للمتلقى بهدف تعليمه وتوجيهه وإرشاده لما يجب أن يتعلمه و يتكيء عليه فى دروب الحياة المتنوعة. مدرس الأدب الحديث والمقارن بآداب القاهرة