عندما تسافر، باعتبارك صحفيًّا، في وفد رسمي لتمثيل مصر في مهرجان، فإنه شيء يدعو للفخر، ولكن مايزيد الفخر فخارًا هو أن ترى مدي عِشْق شعب بأكمله لكيان اسمه مصر، فتراك تزهو ببلدك، وحضارتك، وتاريخك، وشعبك، وكل ما يحمل اسم أم الدنيا، لتعيش أيامًا من السعادة الحقيقية، التي تخفف عن نفسك كل عناء وتعب المشاكل التي تئن بها مصر، وتنعكس على نفسية كل المصريين، لكن عندما ترى كل هذا الكم من الحب والهيام والعشقْ لهذا البلد، مهد الأديان، وقِبلة الأنبياء، الذي كرمه الله عز وجل في قرآنه عن سائر البلاد، من كل شعوب الأرض، فلا تملك إلَّا أن تقول لا كرامة لبلد في عين أهله، فهم يئنون، ويتوجعون، ويصرخون من قسوة المعيشة، في حين يهيم فيه الغير حبًّا وغرامًا، يحتسون فيه السعادة كؤوسًا لاتنتهي، حتى الثمالة، على شواطئه الخلابة، وأرضه الطيبة، ونيله الساحر، وحضارته العريقة، وآثاره المذهلة . أحاسيس جياشة من الفرح والسعادة انتابتني على مدار 5 أيام ، وأنا بصحبة الوفد المصري الكبير الممثل لمصر في أكبر وأهم مهرجان في المملكة العربية السعودية : مهرجان التراث والثقافة بالجنادرية ، الذي اختار أم الدنيا ضيف شرف دورته الحادية والثلاثين ، في 2017 ، وأنت ترى مدى الحب والعشقْ لمصر ، في كل مكان تذهب اليه ، وكل وقت يمر عليك في الرحلة ، حتى تشعر وكأنك في بلدك . كانت رحلة استكشافية ، قبل أن تكون للعمل ، ذهبت وتدور في عقلي عشرات الأسئلة : هل أثرت أزمة تيران وصنافير على علاقات الشعبين ؟ هل غيرت السعوديين وملكهم خادم الحرمين الشريفين نحو مصر بالسلب ؟ كيف سيكون استقبالنا بعدها ؟ كيف ستكون المعاملة ؟ كيف ستكون مشاعرهم نحونا ؟ هل ستنجح الثقافة والفن في إصلاح ما أفسدته السياسة ؟ لم أنتظر طويلًا لأبحث عن الإجابات ، فلقد جاءتني بنفسها سريعًا ، بلا أدنى عناء ، رسائل سعودية مباشرة لمصر ، تكشف بجلاء عن مدى رسوخ حب الشعبين في القلوب ، وتجذر العلاقات بين البلدين في التاريخ ، تقول : "مهما كان الخلاف ، فلن نستطيع الاستغناء عن مصر ، ولا شعبها ، سنظل نحبكم أبد الدهر ، ولن يفرقنا شيء عابر ، سيذوب مع مرور الأيام" .. رسائل لا تخطئها عين بصيرة ، وخاصة عندما تكون صحفيًّا ، فتفهم وتحلل من الإشارات والمواقف ، ما يمر على المواطن العادي مرور الكرام . البداية كانت على سلم الطائرة ، وأنت ترى وزير الثقافة والإعلام السعودي الدكتور عادل الطريفي ، مبعوثًا من جلالة الملك سلمان بن عبد العزيز ، في استقبال وزيرنا الكاتب الصحفي حلمي النمنم ، وكل الوفد المصري ، بموفور الود والحفاوة والترحاب ، لتأتي بعدها أقوى الرسائل ، في اليوم التالي ، حيث قام جلالة الملك بافتتاح المهرجان ، بصحبة أشقائه من ملوك وأمراء الخليج ، في جو من الإخاء والحبور ، ليذهب ، عقب ذلك مباشرة ، ضيفًا كريمًا على الجناح المصري العملاق ، الذي يمتد على مساحة شاسعة تبلغ 2000 متر مربع ، يحمل عراقة التاريخ المصري ، مصنوع بأنامل مبدعة مصرية ، عاشقة للتصميم الفني ، الذي يفوح منه عبق التاريخ ، وإحساسها المرهف بسحر الإبداع .. إنها المهندسة المصرية رانيا فائق ، رئيس قسم الديكور والتجهيزات الفنية بصندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة ، التي سابقت الزمن ، وأنجزت أكبر جناح في مهرجان التراث والثقافة الحادي والثلاثين بالجنادرية ، على الورق ، في 24 ساعة ! .. في 24 ساعة فقط ، كانت قد أعدت كل الرسومات المجسمة للجناح ، بعدها بدأت رحلة التنفيذ ، فسافرت للسعودية ، وقادت فريق عمل ، وفِي غضون أسبوع واحد فقط ، حوّلت الخيال إلى واقع ، ليخرج الجناح في أبهى حُلّة ، أمام الملك سلمان ، ورفقته الرفيعة المستوى من كبار رجال المملكة ، وأمراء الأسرة الحاكمة ، والذي أصر على زيارة الجناح ، بنفسه ، غير مبالٍ بإرهاق أو تعب أو سن ، رغم أنه كان يمكنه إرسال مبعوث عنه ، بل وتفقد كل أقسامه ، بصحبة الوزير النمنم ، ورئيس قطاع مكتبه اللواء حسن خلاف ، وهو سعيد بكل مايشهده ، يشيد بجمال الجناح المصري ، وروعة تصميمه وتقسيمه ، ليختم زيارته بعبارة إعجاب ، باحت بكل مكنون الحب العميق بقلبه لمصر وشعبها : "مصر عادت من جديد" ، لتكون أبلغ رسالة للقيادة السياسية في مصر من الملك ، مفادها " لننحِ خلافاتنا جانبًا .. فلا غنى لنا عن مصر أبدًا". وتتوالى الرسائل ، طوال أيام المهرجان ، من شعب المملكة من كل المستويات ، والأعمار ، وأنت تراهم يتوافدون على الجناح كالسيل ، يغمرونه بالحب ، وفِي عيونهم علامات الانبهار بالحُلي النادرة من العصور المتعاقبة على القاهرة : الفاطمية ، والمملوكية ، والطولونية ، والإخشيدية ، وغيرها ، من الفضة الخالصة ، المعشقة بالأحجار الكريمة تخطف القلوب والأبصار ، و كنوز الشكمجيات ، واللوحات البارزة ، وصناديق المجوهرات ، المصنوعة بمهارة ودقة لا متناهية ، في تصميمات ساحرة ، ممزوجة بالصدف اللؤلؤي الناصع البياض ، فتنتزع الآهات ، وتذهلهم تحف من الأواني الفخارية ، والخزفية ، التي تشع جمالًا ، بتكوينات ألوانها الزاهية ، التي تتمازج في روعة وإتقان ، و التشكيلات البديعة من الخط العربي بأنواعه الزاخرة بالإبداع : النسخ ، الثُلث ، والكوفي ، والعثماني ، وإبداعات الفن التشكيلي ، من تابلوهات زيتية من فرط روعتها تكاد تنطق حياة ، ترسم مظاهر الحياة في ريف مصر الأصيل ، وأخرى مطبوعة على الجلد ، فضلًا عن إبداعات النسيج ، على السجاد الصوفي الفاخر ، الذي يحمل زخارف هندسية ودائرية وتشكيلية ، ليكون جناحها شاملًا بحق ، مُعبِّرًا عن حضارة وعراقة أم الدنيا ، وكل يوم ، يمتلأ الجناح عن آخره ، وأنت تسمع عبارات الزهو على كل الألسن ، وهي تقول : "حقًّا .. إن مصر أم الدنيا" .. لتؤكد بما لايدع مجالًا للشك أن "مصر في قلب شقيقتها السعودية ". [email protected] لمزيد من مقالات ياسر بهيج;