بغض النظر عن كل مظاهر الاعتراض والرفض التى شهدها احتفال تنصيب الرئيس الأمريكى الجديد يوم الجمعة الماضى (20/1/2017)، فإن ما كان يراه الكثيرون كابوسا تحول إلى واقع، وما كان يتصوره كثيرون خيالا أصبح، رغما عن الجميع، واقعا. دونالد ترامب هو الرئيس ال 45 للولايات المتحدةالأمريكية. كان الانشغال متركزا على شخص وتاريخ ونوادر هذا الملياردير العقارى البعيد والغريب تماما عن عالم الحكم والسياسة، ولم يأبه كثيرون بإعطاء الدولة التى سيكون ترامب رئيساً لها اهتماماً مماثلاً، رغم الارتباط الشديد بين الرئيس والدولة. دونالد ترامب لم يأت من فراغ، هو ابن شرعى لواقع سياسى - اجتماعى - اقتصادى وثقافى أيضا تعيشه الولاياتالمتحدةالأمريكية بشعبها ومؤسساتها واقتصادها. ولعل هذا يفسر «الغرابة» و«التعجب» الذى اكتسى أغلب التحليلات والتفسيرات عن فوز ترامب، فهؤلاء الذين أبدوا استغرابهم لفوز ترامب، تجاهلوا، عن عمد أو عن غير عمد واقع الولاياتالمتحدة، وهذا ما حاول الكاتب الإسرائيلى «نتسان هوروفيتس» تفنيده فى صحيفة «هاآرتس» عقب إعلان فوز دونالد ترامب بقوله: «الولاياتالمتحدة بمكانها ومئات الملايين من مواطنيها قائمة بالتأكيد، ولكن (أمريكا) لم تعد قائمة». المقصود هنا هو الدور والمكانة العالمية، وبالتحديد دور ومكانة الولاياتالمتحدة كزعيمة للعالم الحر، خصوصاً فى ظل تنكر، بل وثورة ترامب، على قيم وثقافة العالم الحر، وفى ظل تبرؤ ترامب من شركائه خاصة فى أوروبا وحلف شمال الأطلسى «الناتو». سؤال إن «أمريكا لم تعد قائمة» عندما يصدر عن كاتب إسرائيلي، رغم كل وعود ترامب لإسرائيل سواء ما يتعلق بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس أو بدعم سياسة التوسع الاستيطاني، فإنه، يعبر عن مخاوف إسرائيلية حقيقية من تراجع المكانة الأمريكية العالمية لأن هذا يؤدى إلى تراجع الدعم الأمريكى لإسرائيل. كما يعبر هذا الفهم الإسرائيلى أيضاً عن توجس وخشية من احتمال دخول أمريكا «ترامب» فى تفاهمات مع روسيا بخصوص سوريا قد تكون على حساب مصالح يراها الإسرائيليون شديدة الحيوية والأهمية بالنسبة للكيان الصهيوني. هل الإقرار بحقيقة وجود درجة لا بأس بها من الاتساق بين شخص دونالد ترامب بما يحمله من رؤى وأفكار وبين «الحال الأمريكي» المتردى يكفى لنفى ما تردد عقب فوز ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية من أنه «رئيس استثنائى فى سياق التاريخ الأمريكي؟». السؤال حاول ديفيد بيل الإجابة عليه فى مجلة «فورين بوليسي»، بكشف العلاقة بين فوز ترامب انتخابياً وبين صعود غير مسبوق لظاهرة «الشعبوية» أى «تصاعد العداء للنخبة الحاكمة لدرجة الانقلاب عليها». هناك بالفعل درجة عالية من الاتساق بين أفكار ترامب العدائية للمؤسسة الحاكمة فى الولاياتالمتحدة، وللسياسة الليبرالية المعولمة، ولتورط الولاياتالمتحدة فى حروب خارجية تخدم مصالح الآخرين أكثر مما تخدم مصالح الولاياتالمتحدة لا لشئ إلا من أجل تأكيد دور الزعامة الأمريكية، وبين الموجة «الشعبوية» الراغبة فى التغيير وإسقاط النخب الأمريكية ومؤسساتها التى أفقرت الملايين من الأمريكيين وأدت إلى انتشار البطالة خاصة فى صفوف الشباب، كما أدت إلى اتساع الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون فى المجتمع الأمريكى الذى تحول بفعل هذه السياسات إلى «مجتمع خطر» Risk Society . يقر «ستيورات باتريك» فى «مجلس العلاقات الخارجية» بهذا التلاقى بين ترامب وشخصيته وأفكاره وتمرده، وبين ملايين الأمريكيين الذين قرروا هم أيضاً التمرد على هذه المؤسسة وسياساتها، فيقول: «فهم ترامب أن هناك عدداً متنامياً من الأمريكيين الذين لا يثقون بالعولمة، والقلقين من الالتزامات الأمريكية فى الخارج.. وهو أيضاً وعد بقيادة ولايات متحدة أكثر انفصالاً عن العالم وأكثر اهتماماً بمصالحها الخاصة الأمر الذى لقى صدى لدى المواطنين الأمريكيين الذين لا يريدون قبول تحمل العبء العالمى كثمن للقيادة الأمريكية». إذا كانت هذه هى الحقيقة فإن أسئلة كثيرة باتت تفرض نفسها بعد أن أصبح ترامب رئيساً حول «عالم دونالد ترامب» انطلاقاً من تشكك فى استمرارية تماسك ما يسمى ب «العالم الحر» وبالتحديد التحالف الأمريكى الأوروبي، وقيادة الولاياتالمتحدة لهذا التحالف، ومنظومة القيم والمؤسسات الحاكمة له وبالتحديد الليبرالية كأبرز القيم، وحلف شمال الأطلسى كمظلة أمنية- دفاعية تقودها الولاياتالمتحدة للدفاع عما كان يسمى ب «العالم الحر». هل يمكن أن يتفكك هذا العالم الحر ويتبعثر، بحيث تتجه الولاياتالمتحدة إلى تحالفات انتقائية مع بعض أطرافه، بريطانيا مثلاً، وأن تتجه بعض أطرافه إلى تحالفات مع قوى دولية منافسة خاصة روسيا والصين؟ الأسئلة التى تخص شكل النظام العالمى وخرائط تحالفاته الجديدة فى ظل حكم ترامب، ومستقبل ومكانة الأممالمتحدة كثيرة ومثيرة جدا فى ظل تصريحات شديدة الخطورة وردت على لسان الرئيس ترامب، أقل ما توصف به أنها استفزازية، تناولت حلف شمال الأطلسى (الناتو) الذى اعتبره «بائداً» و«عديم الفائدة»، كما تناولت الاتحاد الأوروبى الذى توقع تفككه، فى مقابل عرضه غصن زيتون على روسيا، باقتراحه صيغة جديدة للتعاون تقوم على رفع أمريكا العقوبات المفروضة على روسيا عقب ضمها لشبه جزيرة القرم مقابل موافقة روسيا على التفاوض على معاهدة جديدة لخفض التسلح النووي. الأسئلة الأصعب تتعلق بالداخل الأمريكى سواء مدى قدرة ترامب على الوفاء بوعوده للملايين الذين انتخبوه من العاطلين بإيجاد الوظائف الكافية والمناسبة لهم، ومدى قدرته على تجديد حلم «أمريكا العظيمة» ومدى قدرته على التعامل مع مؤسسات الحكم الأمريكية التى دخل معها فى صدام مبكر وعنيف خاصة أجهزة المخابرات الأمريكية التى لم تتورع عن تمرير تقارير تتهم روسيا بأنها وراء فوز ترامب، ما يعنى عدم جدارة ترامب بالرئاسة. مثل هذه المواجهات المبكرة تقول إن «عالم دونالد ترامب» سيكون حتماً عالماً مضطرباً داخليا وخارجيا، لكن هذا لا يعنى أنه، ومؤسسات الحكم سيكونان عاجزين عن وضع إطار ل «التكيف المتبادل» لإدارة الدولة، وهذا التكيف الذى سوف يستهدف إعادة هندسة إدارة السياسة الأمريكية سيكون مسئولية الوزراء الذين اختارهم لإدارة الدولة وإدارة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وأيضاً مسئولية مراكز البحوث والدراسات الكبرى التى تقف وراء كل هؤلاء. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;