فى بداية القرن العشرين كتب الأديب الروسى أنطون تشيكوف قصة رائعة اسمها «جاذبية الكتاب المقدس».تدور فى قصر أحد الأغنياء اجتمع رجال السياسة والقانون والمال تلبية لدعوة صاحب القصر وكان إلغاء عقوبة الإعدام هو الموضوع المثار فى كل المحافل حينها وكان النقاش على درجة كبيرة من الانفعال نظراً لإنسانية الفكرة. وكان صاحب القصر رجل الأعمال الغنى من أشد المؤيدين لعقوبة الإعدام، وبينما كان النقاش مع رجال القانون ورجال الدولة فى هذا الموضوع كان هناك محام شاب يتكلم بانفعال شديد عن إلغاء العقوبة. فقال الشاب لصاحب القصر إن الإعدام عقوبة غير آدمية، وماذا حين يظهر دليل لبراءة الذى أعدم بعد موته، ولكن حين يكون مسجوناً يمكن تدارك الخطأ. بينما دافع صاحب القصروقال: بل إنها عقوبة رحيمة أكثر من السجن مدى الحياة، فالمسجون يموت كل يوم بينما الذى أعدم يموت مرة واحدة. وهنا ابتسم المحامى الشاب بسخرية وقال له: ما هذا الكلام كيف يمكن أن نقارن بين الموت الحقيقى والآلام النفسية التى يشعر بها المسجون.ورد صاحب القصر وقال: أيها المحامى إنك تتكلم دون أن تختبر الأمور لأنك لم تسجن من قبل، ولكننى واثق إذا سجنت ستتغير وجهة نظرك. واحتدم النقاش بصورة انفعالية وعندئذ أعلن صاحب القصر عن صفقة ليسكت بها المحامى الشاب ويقدم دليلاً عملياً عن صدق رأيه، فقال أمام الجميع: أيها المحامى إننى أبرم معك اتفاقا مكتوبا وموثوقا وهو أننى سأتنازل لك عن كل ثروتى وقصرى إذا استطعت أن تحتمل السجن خمسة عشر عاماً.وصمت المحامى الشاب ولمعت عيناه وهو يفكر وقال: أنا موافق. ووسط همهمة الجميع كتب صاحب القصر الغنى الاتفاق الذى تذهب ثروة هذا الرجل الغنى إلى الشاب بعد خمسة عشر عاماً من السجن فى القصر على ألا يتكلم مع أحد وأن يوفر صاحب القصر للشاب الأكل والشرب والملابس والكتب والأمور الشخصية. وإذا لم يحتمل الشاب السجن يمكنه الخروج فى أى وقت ولكنه سيخسر كل شيء ولا يأخذ أى تعويض من سنوات السجن. ومع محاولات الجميع لإيقاف هذا الاتفاق إلا أن الاثنين كانا مصرين على اتفاقهما. وفعلاً ذهب الشاب إلى حجرة بحديقة القصر ليسجن هناك. ومع أنه دخل سجنا اختياريا حتى بدأ يتسرب إليه القلق والضيق وانفجرت الكلمات داخل عقله، ما الذى فعلته بنفسي؟! وأى مستقبل ينتظرني؟! وقد أموت هنا قبل أن أحصل على الثروة. ومرت الأيام بصعوبة بالغة. فطلب كتباً ووسائل تعليم ليكسر بها صعوبة الأيام. ومرت السنوات الخمس الأولى وقد تعلم اللغات والموسيقى وقرأ كل أنواع الأدب ولكنه كل يوم يزداد عصبية وضيقا وكان يشعر بأنه قد دفن نفسه بإرادته. ولكن فى العام السادس طلب الكتاب المقدس ليقرأه. وما أن قرأه حتى تغير سلوك المحامى الشاب. فلقد كان كثير الطلبات من صاحب القصر وكان يعامل الحارس معاملة قاسية ولكن كل شيء تغير ولم يعد يطلب شيئاً آخر. ومرت الأعوام التالية وهو فى هدوء وبلا طلبات، وأصبح صاحب القصر رجلا عجوزا إلى أن أتت السنة التى سيخسر فيها كل شيء وتذهب أمواله إلى المحامى السجين. وكان كل يوم يمر يزداد الغنى قلقاً وضيقاً، وسأل عنه وعن حاله،فقال له الحارس: منذ سنوات وهو لا يفعل شيئا سوى أن يقرأ الكتاب المقدس ويصلي. لقد صار قديساً. ولم يهتم بكلام الحارس لأنه كان يشعر أنها أيام وسيطرد من قصره ويحرم من ثروته. وفى إحدى الليالى أخذ سكيناً وذهب إلى مكان سجن المحامى وكان نائماً فاقترب منه ليقتله ولكنه وجد ورقة بجوار سريره فأخذها وما أن قرأها حتى انهار وسقط من الدهشة. لقد كانت الورقة هى التنازل من المحامى عن حقه فى ثروة صاحب القصر وفى نهاية التنازل شكر لصاحب القصر على استضافته ومحبته له. واستيقظ المحامى ووجد صاحب القصر جالساً فى حالة ذهول وفى هدوء البسطاء ابتسم وقال له: بعدما قرأت الكتاب المقدس واقتربت من الله شعرت أننى غنى من الداخل ولم أعد أهتم بثروتك ولا بقصرك ولم يعد فى داخلى أى صراع أو قلق، بل امتلاً قلبى من الحب ولم أعد أنظر إلى العالم بنظرة المصارع على مقتنيات، فقد تغيرت نظرة الحياة فى داخلى وكنت أشعر بمحبة شديدة نحوك والآن لى طلب واحد أن تتركنى أكمل حياتى هنا فى محبسي. فانهمر صاحب القصر بالبكاء واحتضنه وقال له إن كنت حقاً أحببتنى شاركنى الحياة فى القصر فأنا أحتاجك بجانبي. عزيزى القارئ إننا أمام نموذجين من حياة البشر أحدهما يملك ثروة من الخارج ولكنه لم يكن يدرك معنى الحياة، والآخر أدرك أن الحياة ليست فى صراع لأجل أموال ولا فى مقتنيات تبنى على أشلاء وحياة الآخرين، وقد أدرك أن الحياة هى الشعور الداخلى بوجود الله الذى لأجل محبته للإنسان صنع كل شيء ليعيش الإنسان مع أخيه فى مملكة الوجود يحمل حباً يثمر عملا، ينشر خيرا، ويحكم عدلا لكن منذ أن دخل الإنسان فى صراع الذات ورفض الخضوع للوصية الإلهية،واختار الفساد، واختار الصراع، واختار الموت،صار الإنسان يدور فى دائرة الصراعات ووحشية الامتلاك. وكان يرى أخاه يموت جوعاً ولا يسد جوعه، بل يغرس فى قلبه سكينا لكى يستحوذ على بقعة الأرض التى يعيش فيها. ويحكى تاريخ البشرية تاريخ الوحشية وتاريخ الصراعات السياسية، وكلما كان يزداد الإنسان فى العلم كان يبحث عن آلات التدمير والقتل. وأخذت الوحشية فى الصراعات منطقا سياسيا أحياناً، وصار القتل والاستعمار فوزا ونصرا، وصار تجويع الشعوب خضوعاً وتبعية. فتكلفة الحرب العالمية الثانية من 1939-1945. ألف ومائة وأربعة وخمسون مليار دولار هى تكلفة الموت وليس الحياة، هى تكلفة الكراهية، هى تكلفة دفعت كى تعيش أسر مشردة، وتظل أطفال تبكى من اليتم والجوع. فقد قتل فى هذه الحرب خمسة وخمسون مليون إنسان، وتركت ستين مليون معاق وأسير ومفقود. وصار العالم يحكمه من يحمل سلاحاً أعظم، حتى دخل العالم فى صراع نووى الذى يهدد بفناء الكرة الأرضية وموت كل البشر. كل هذا لأننا صرنا نحمل صراعاً على أحجار وتراب وعبوديتنا لبعضنا البعض، ولم ندرك أننا لسنا مخلوقين لكى نتصارع ونتحارب بل لكى نحب ونحيا، ولكى نغرس ونبني، لكى ننشر الورد على جوانب الطرق، ولكى نرنم أناشيد الحب ونعزف سيمفونية الحياة. ولكننا أدمنا الصراع وأدمنا الموت فنتصارع فى سياسات، ونتصارع أديانا، ونتصارع طوائف، ونتصارع فى منافسة تجارية، ونتصارع حتى داخل الأسرة فى صراع الذات، بل نتصارع فى داخلنا بين الخير والشر.فأى حياة لمن يعيشون فى صراع على امتلاك تراب فى أيديهم، فبعد العمر وبعد صراخ الكلمات، وبعد الصراع على بعض من اللذات، وبعد ذبح كل شيء لأجل الذات، وبعد اللهو والتسكع فى الطرقات تكون نهايتهم تصارعوا على الموت وصاروا أموات. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس