عندما علم أهل الاسكندرية أن الشيخ المغربى «محمد بن الوليد الطرطوشى»، الذى جلب الشهرة لبلاده، سيمر على المدينة فى طريقه إلى الشام، خرجوا جماعات لاستقباله ودعوته ليكون ضيفاً عليهم، ويحمل صفة «نزيل الاسكندرية»، لتكتسب مدينتهم مجد العلم والمعرفة. ودامت استضافة الطرطوشى من سنة 490 ه، وهو فى سن الأربعين إلى السبعين فى 520 ه، وغدا الطرطوشى جزءاً من تاريخ الاسكندرية وشاهداً عليها، وينسب إليها مثل أبنائها. والأثر الذى تركه بعد وفاته، ودل عليه بقوة، لا يقل عن الأثر الذى قدمه لها فى حياته. وأثناء إقامته الطويلة اهتدى الطرطوشى إلى زوجة وفيَّة وثقت فيه، وأطلقت يده فى مالها وهى آمنة، لأنه لم يكن يحيد عن الحق. وكتب العديد من مؤلفاته التى تحيط بتاريخ الأمم الغابرة التى بادت بعد أن كانت تتألق بالقصور والعمائر. ويُتوِّج كتابه «سراج الملوك» الذى وضعه فى الاسكندرية عبر سنة كاملة، قبل وفاته بقليل بعد أن تحرر من الاعتقال الذى تعرض له بسبب أفكاره. ويدافع في هذا الكتاب عن الشرع والعدل فى نظم السياسة والحكم والتعامل مع الرعية، بما يصلح أحوالهم، لا يعلى عليه فى منهجه ورؤيته وحكمته كتب أخرى إلا فيما ندر. وكتب التراث السياسية تعنى تنظيم أمور الرعية، وهذا ما يجعل الكتاب من أمثال الطرطوشى يؤلفون كتبهم وفى ذهنهم الإشكالية الخاصة بالسلطان والرعية، وهى التى تدفع الى إهداء هذه المؤلفات للحكام، سواء كانوا سلاطين أو وزراء بصفتهم خلفاء الله فى الأرض. ومما رأى الطرطوشى فى كتابه ألا تمتد يد أحد من المشرفين على تركة المتوفين إلى ثرواتهم، لأنها حق الورثة. وعلى الحكومة أن تتكفل من خزانتها بصرف مرتبات هؤلاء المشرفين الذين كانوا يقتطعون من التركات مايحصلون عليه، حتى لا يمس الميراث. وكان الطرطوشى ينتهج فى تدريسه طريقة لم تكن مألوفة، حبَّبت فيه أهل المدينة، إذ كان يخرج بتلاميذه إلى الحدائق والخلاء، ما كان يغرى التلاميذ بالإقبال على دروسه التى عرف الطرطوشى كيف يحولها من عبء ثقيل إلى فسحة أو نزهة فى الهواء الطلق، يقدر عدد من يحضرها بالمئات. غير أن قاضى الاسكندرية «ابن حديد» ضاق بهذه الشعبية التى تمتع بها الطرطوشى فى المدينة، فضلا عن أن الطرطوشى من جهة مقابلة لم يكن يحفل بتقديم فروض الطاعة والولاء لأصحاب المناصب. بل كانت له مآخذ جمة على هذا القاضى المنحرف وغيره، كما كانت له مآخذه على البدع والفتن الشائعة فى هذه الفترة من عهد الدولة الفاطمية. واستطاع ذلك القاضى أن يُحدَّد إقامة الطرطوشى فى أحد مساجد الفسطاط. وظل رهن الاعتقال، ولم يعد إلى الاسكندرية، إلى أن قُتل الوزير الأفضل الذى حكم عليه هذا الحكم، وأفرج عنه، وعاد الى مدينته. ولم يكن الطرطوشى يقبل تكريم الدولة له بأكثر من دينارين فى اليوم، ورفض خمسة دنانير عرضت عليه وهو فى أمس الحاجة إليها، وكان متصوفاً يأكل طعامه فى شقف الفخار. ولعل أهم ماورد فى كتاب «سراج الملوك» للطرطوشى، الذى اقترن اسمه به، وصاياه للملوك والحكام، وحول هذا قال: « كما أن بالسلطان العادل تصلح البلاد والعباد، كذلك بالسلطان الجائر تفسد البلاد والعباد، وتقترف المعاصى والآثام»، ويرى أن العلماء هم السياج الذى لا غنى عنهم، مثل الحكام، لأنهم يحولون بين الملوك وظلم الرعية، ويردوهم الى الحلم والعطف، لأن منزلة الحاكم من الرعية كالروح من الجسد. وهذا المعتقد كان سائدا، ومفاده أن فساد السلطة الحاكمة وجهود العلماء لا يؤديان إلا إلى غلق أبواب التجديد، وإلى النقص والعلل. ومما يؤسف له أن نصف انتاج الطرطوشى الذى يزيد على عشرين كتابا لم ينشر منه غير كتابين فقط.