سيدة ترتدى الملابس السوداء وعلى وجهها تبدو ملامح البؤس والشقاء واضحة.. فقيرة ومريضة وتعول أطفالا، ولا مصدر رزق لها.. ساعدوها يا أهل الخير واتصلوا على هذا الرقم.. ما أن انتهت الحلقة المذاعة على إحدى القنوات الفضائية حتى سارعت «ياسمين» للاتصال بزوجها المقيم بالكويت ترجوه الموافقة على التبرع للسيدة بمبلغ 10 آلاف جنيه نظرا لظروفها الصعبة ورغبة فى الثواب والمغفرة من الله وحبا فى الخير.. اقتنع الزوج بمنطق زوجته وأرسل بالمبلغ المطلوب.. ....................................................اتصلت «ياسمين» بالقناة المذكورة وأعطوها الرقم واتصلت به فعلا وردت السيدة لكن ياسمين لعب الشك فى صدرها فالصوت مختلف عن صوت المرأة صاحبة الحالة والتى رأتها وسمعت صوتها فى الحلقة، وطريقة الكلام لا تناسب سيدة فى مثل ظروفها.. بمساعدة بعض المعارف النافذين وجدت «ياسمين» العنوان وذهبت بنفسها لمكان إقامة السيدة ووجدتها فعلا بحالتها البائسة لكنها اكتشفت اكتشافا مذهلا.. فصاحبة الحالة حقيقية تماما لكن البرنامج صاحب رسالة الخير اتفق معها على مناصفة التبرعات التى ستأتيها.. وأن السيدة المريضة لا تتلقى المساعدات مباشرة، بل عن طريق القناة وهم من يتولون الرد نيابة عنها وبالنسبة لها فكله خير وكله من الله.. المهم أن تجد ثمن العملية.. ليست الحكاية السابقة منفردة أو فردية ولكنها حكاية شائعة ومتكررة جدا.. تبرعوا يا أهل الخير ولكم الأجر والثواب.. كان الاعتراض دائما على فكرة المتاجرة بهموم البسطاء ومعاناة المرضى لتحقيق نسب المشاهدة العالية، لكن الأمر تطور الى حد المتاجرة بالغلابة أنفسهم وابتزازهم رسميا ومناصفة التبرعات معهم.. والحجة دائما هى الحالة الاقتصادية ومعاناة الفقراء، لكن الهدف هو دفعك لوضع يدك فى جيبك دون أن تعرف أين سيذهب ما دفعته.. لا اعتراض على أن التبرعات مظهر صحى جدا من مظاهر التكافل الاجتماعى التى تقوم عليها المجتمعات، وهى موجودة حتى فى المجتمعات الأغنى والأوفر ولكنها منظمة جدا وتخضع لرقابة صارمة. ماذا يحدث فى مصر؟ كل من هب ودب يجمع تبرعات والأشطر يجمع أكثر، ولا أحد يعرف أين تذهب هذه الأموال وكيف يتم صرفها.. ورغم وجود جهات معتبرة عديدة يمكن توجيه هذه التبرعات لها، إلا أن ذلك لم يمنع وجود عدد كبير من الناس يفضل التبرع وجها لوجه أو يدا بيد، ويعتمد الأمر على مدى ثقتك فى الشخص الذى يجمع التبرعات، فهذه تجمع تبرعات لسيدة مريضة وثانية تجمع لبطاطين الشتاء وآخر يجمع لشنط رمضان. ورغم أنه لا تشكيك فى النيات، إلا أن النصابين موجودون فى كل مكان، وبالتأكيد لو تم تنظيم التبرعات وتقنينها بشكل واقتصارها على جهات محددة ومنع البرامج التلفزيونية من ابتزاز الناس عاطفيا عبر الشاشات ومحاسبة القنوات التى تطلب تبرعات لأصحاب الحالات أو وجود طريقة ما لمراقبتهم لحقق الأمر نتيجة أفضل خاصة أن حجم التبرعات فى مصر ليس بالقليل. حسب دراسات حديثة، تصاعد إنفاق المصريين على أعمال الخير بصورة كبيرة وملموسة خلال السنوات الأخيرة.. الأمر الذى أسهم فى تعزيز روح التكافل الاجتماعى بين فئات الشعب المختلفة.. لكن حسب الدراسات أيضا، لا يعتبر هذا الحجم من الإنفاق هو الطاقة القصوى للنوازع الخيرية التى يتصف بها المجتمع المصرى. حسب دراسة أجراها مركز معلومات مجلس الوزراء حول العمل الخيرى للأسر المصرية، يبلغ حجم الأموال التى تَمّ توجيهها إلى أعمال الخير نحو 4.5 مليار جنيه سنويا وهو مبلغ تدفق من 15.8 مليون أسرة مصرية يشكلون 86% من إجمالى عدد الأسر على مستوى مصر، وتوزع هذه المبالغ بنسبة 1.8 مليار جنيه على بند الزكاة بمتوسط 120 جنيهًا تنفقها كل أسرة سنويًّا. كما شمل المبلغ أيضًا نحو 200 مليون جنيه سنويًّا يتم إنفاقها على موائد الرحمن خلال شهر رمضان المبارك، وتمثل هذه القيمة مساهمة القطاع العائلى فى موائد الرحمن والتى تبلغ نحو 40% من إجمالى الإنفاق على هذه الموائد. وحسب الدراسة أيضًا، فإن العطاء الخيرى فى مصر يتخذ عدة أشكال وصور، فهناك 97% من الأسر المصرية التى تقوم بأعمال الخير يدفعون أموالا بغرض الزكاة، وهناك 21% من الأسر تقوم بدفع تبرعات أو مساعدات أو صدقات. د. نادية رضوان، أستاذ علم الإجتماع بجامعة بورسعيد تقول: أصبح مجال العمل الخيرى فى مصر مقصورا على مجال الإغاثة والإطعام والإيواء والدواء.. بما يعنى الافتقار إلى التخطيط الاستراتيجى على المدى الطويل، فى استغلال أموال الخير فى مساعدة الدولة فى بناء بنية تحتية او المساعدة فى الارتقاء بمجالات الصحة او التعليم او الطرق وكلها مساعدات متعارف عليها فى الدول المتقدمة. فالعمل الخيرى فى المجتمعات المتقدمة، انتقل من مجرد العطاء فقط إلى المشاركة فى البناء. وعشوائية التبرعات الحاصلة الآن هى تمزيق واستنزاف لجيوب المصريين ولموارد المجتمع المصرى.. د.نادية أرست تقليدا جديدا فى محيط أصدقائها وعائلتها فهى لا تتلقى الهدايا فى المناسبات وتطلب من ضيوفها وزوارها إرسال ثمن الهدية لصندوق تحيا مصر.. قد يكون ما تتبرع به مبلغا صغيرا أو كبيرا وقد يمثل بالنسبة لميزانيتك عبئا او أمرا هينا.. بالتأكيد سيصل إلى السماء وسيكتب لك، لكن عليك أن تتأكد أنه سيصل لمن يحتاجه حقا على الأرض..