قبل عشرين عاما بالتمام والكمال، بدأت عملى فى قسم الحوادث والقضايا فى الأهرام. وكان أول مصدر أتولى تغطية أخباره كمندوب للجريدة فيه هو جهاز المدعى العام الاشتراكى، وهو ما وضعنى لسنوات فى أجواء متابعة قضايا الفساد، والاهتمام بالأجهزة والهيئات المتعددة التى كانت تواجهه. لكن جهة محددة كانت - ومازالت- تجذب عينى دوما من بعيد، فكنت أجدنى مقبلا على قراءة أى أخبار عنها، حتى بدا لى أننى أراقبها فى خيالى بضميرى، كى تظل صورتها بهية فى نظرى.. تلك الجهة هى هيئة الرقابة الإدارية. مقر الهيئة العتيد فى حى مدينة نصر، الذى لم يسبق لى دخوله من قبل، كان فى عينى دائما مثالا لبنيان شاهق، يقف راسخا متحديا، تكسوه علامات الهيبة والغموض. لا أحد يعلم بالتحديد ما يدور داخله، لكن الكل يعرف محصلة العمل الذى ينتجه، من خلال قضايا الفساد الكبرى، التى كان يتبين وسط سطور الأخبار - دون طنطنة أو دعاية- أن هيئة الرقابة الإدارية هى التى تولت كشفها. شيئا فشيئا، تزايدت أخبار الهيئة عبر السنين. وكانت تدعو فى الماضى أحيانا عددا محدودا من كبار الصحفيين، لإطلاعهم على جهودها خلال فترة زمنية معينة، حيث يتم عرض بعض مقاطع الفيديو التى تم تسجيلها بالصوت والصورة للحظات سقوط المرتشين، فى القضايا التى يكون القضاء قد حسمها. وما أذكره الآن هو ما كان يكتبه أساتذتنا وقتها حول حالة الذهول العقلى والانهيار النفسى التى تظهر على وجوه المسئولين الفاسدين عندما يفاجأون برجال «الرقابة» يقتحمون عليهم جلساتهم الآثمة، فى مشهد ختامى لم يتوقعوه يوما، لكنه يأتى ليكتب فصل النهاية لممالكهم الخاوية، تحت عنوان «السقوط الأخير»!. تلك الأيام، كنت أتساءل: «كيف يستمر كل هذا الفساد فى البلاد بينما تعمل الرقابة الإدارية بكل هذا القدر من الإخلاص؟! ماذا يعرقلها؟!».. إحدى الإجابات المتداولة وقتها ذكرت أن الهيئة تعمل بالفعل بتجرد كبير وتجمع معلوماتها حول كل فاسد مهما علا شأنه، لكنها تقوم بعرض ملفاتها على القيادة السياسية وقتها، فإذا جاءت التأشيرة على الملف بعلامة «صح» فإنها تستكمل الإجراءات بالإحالة إلى النيابة والقضاء، إلا أن كثيرا من الملفات لم يكن يعود إليها!. وقتها كنت محررا صغيرا، وكانت هذه النوعية من «الكلمات» تعجبنى كشاب. أرى أنها تتسق مع الوضع العام فأعتبرها «معلومات». لكن الصغير يكبر ويتعلم، أو هكذا ينبغى. لذا فإن ما أقوله اليوم هو أنه لا دليل قاطعا عندى على صحة هذا الكلام، وأننى حتى إن كنت أميل إلى تصديقه، فإننى أنظر إليه باعتبار أنه «تحليل»، أو قول مرسل يحتمل الصواب لكنه بلا دليل.. أى أنه فى كل الأحوال ليس «معلومة».. والفارق بين المعلومة والتحليل كبير!. الآن مرت السنون.. وقامت لدينا ثورتان، وأصبحت المعلومة الواضحة للعيان، هى أن الدولة تعتمد على هيئة الرقابة الإدارية فى شن حرب معلنة ضد الفساد. هذه معلومة يمكن استنباطها بالعين المجردة، أو الأحرى (الرؤية المتجردة)، عبر متابعة عناوين الأخبار وحدها. حتى أن بعض التحليلات المتسرعة تذهب إلى أن اللواء محمد عرفان رئيس الهيئة أصبح مرشحا لرئاسة الحكومة بسبب ظهوره المتكرر بجوار الرئيس عبدالفتاح السيسى. لكن الرجل يقوم بدوره فى موقعه.وتزايد الأعباء الملقاة على عاتقه وعاتق رجاله فى الهيئة ليس إلا انعكاسا لتوجه صادق نحو التطهير. لكن البئر التى تلوث ماؤها فى عقود لا تتطهر فى أيام أو سنوات. ولا عجب - والحال كذلك- فى أن تتعرض الهيئة للهجوم عليها من آن لآخر، فإذا كانت هى تشن حربا ضد الفاسدين فإنهم أيضا لن يقفوا مكتوفين. بل لعل الهجوم عليها أمر تاريخى قديم، بلغ ذروته عندما صدر قرار رسمى بتجميد نشاطها عام 1980، قبل أن يعاد تشكيلها بعد ذلك بعامين لتستأنف أعمالها. هذه الأمور يعرفها الآن أعضاء الرقابة الإدارية جيدا، ولا تؤثر فيهم أى أقاويل أو تحليلات فارغة، لذا فإنهم يواصلون حربهم نحو التطهير. هذا ما أكدته لى مصادر الهيئة، قائلة إنه فى أى قضية يتم الكشف عنها، تكون التحريات قد أظهرت قبلها كل وقائعها وأبعادها، وإنه لا مجال للتستر على أحد. وتساءلت المصادر: «إذا كانت الهيئة تريد أن تخفى جرائم بعينها فلماذا تبادر بإعلان أسماء المتهمين بنفسها؟. أو لماذا لا تكتفى بإعلان القضايا الصغيرة أو أسماء صغار المتهمين فحسب؟». وطالبت مصادر الهيئة جموع الشعب ببذل بعض الجهد فى مواجهة الفساد عبر الإبلاغ عنه، لأن عدد أعضاء الهيئة لا يزيد على 450 عضوا، يقومون بالرقابة فى مختلف الجهات والمحافظات، ولأن تعاون الناس بالإبلاغ سيكون أفضل كثيرا من أن يشاركوا دون أن يدروا فى معارك يحركها فاسدون، يخشون أن يحل عليهم الدور، فيقومون بالهجوم على الهيئة فى الخفاء والتشكيك فى إجراءاتها. أخيرا.. هذه كلمتى.. أنا ابن الريف وأعرف جيدا كيف يكون كلام «المصاطب».. وأنا ابن المدينة وأعلم ما يكون بحديث المقاهى.. أعرف ضحكات السخرية وغمزات العين وهمس الكلام.. للإيحاء بامتلاك المعلومة عن يقين.. وهى ليست إلا حجبا تخفى جهل الجاهلين.. ليتنى كنت أستطيع قول كل ما أعرف.. لكننى أيضا ابن القانون.. الذى به ألتزم.. والذى بتطبيقه يطالبون.. إلا على أنفسهم أو ما تقيأت به عقولهم.. ألا ساء ما يحللون!. لمزيد من مقالات محمد شعير