مازالت عبارة الفيلسوف الرومانى المنسى لوشيوس أنايوس سينكا «قل كلمتك.. وامش» تلخص الموقف الأكثر ملاءمة وجدوى فى ظروف لا تحتمل مشاركة فى الشأن العام، وإسهاماً فعلياً فى قضاياه. فعندما تُحمَّل هذه المشاركة صاحب الرأى ما يفوق طاقته، أو تُعرَّضه لأخطار لا قبل له بها، لا يكون أمامه الا أن ينصرف تماماً عن الشأن العام ويحتفظ بآرائه لنفسه، أو أن يطرحها دون أن يمارس أى فعل لإقناع غيره بها أو تحقيق تغيير على أساسها، أى يقولها ويمضى إلى حال سبيله. ولكن هذا المنهج لا يعصم من يلجأ إليه من الخطر فى كل الأحوال، حتى إذا جعل عبارة «قل كلمتك.. وامش» شعاراً يتصدر الصفحة الأولى فى جريدة يصدرها، مثلما فعل الصحفى اللبنانى الراحل كامل مروة عندما أصدر صحيفة «الحياة» فى بيروت فى مثل هذا الوقت من عام 1964. فقد اغتيل برصاصتين أُطلقتا عليه فى مكتبه من مسدس كاتم للصوت فى مايو 1966، فى إطار صراعات الحرب الباردة العربية التى اشتعلت فى ستينيات القرن الماضى. وليست هذه حالة فريدة من نوعها. فغير قليل هم أصحاب الرأى الذين لحق بهم الأذى بأشكال مختلفة رغم أنهم كانوا يقولون كلماتهم ويمشون، وسجل بعضهم تجربته فى صورة أدبية مثل الكاتب الصينى لي فيجان المشهور باسم باكين، الذى وقف مع ثورة 1949 الشيوعية، وانفعل بها فى بعض أعماله الأدبية مثل الرواية التى تُرجمت تحت عنوان «ليلة مثلجة». ورغم أن هذه الرواية تعبر عن موقف مؤيد للثورة، فقد صادرتها السلطة «الثورية» بدعوى أنها متشائمة! وعندئذ قرر باكين أن يتوقف عن ممارسة أى نشاط، ويكتفى بإبداء رأيه حين يُطلب منه ذلك. ولكن التزامه الحد الأدنى، أو ما دونه، من منهج «قل كلمتك .. وامش» لم يكن كافياً لحمايته من موجة عاصفة اقتلعت أفضل مثقفى الصين وعقولها رغم أنها حدثت تحت عنوان «الثورة الثقافية». ولكنه كان أفضل خطأ من غيره، لأنه نجا بحياته، وواصل إبداعه بعد أن انقطع منذ مصادرة الرواية التى كانت ترجمتها إلى عدة لغات منذ نهاية السبعينيات بداية لشهرته الواسعة، والجسر الذى عبر عليه الأدب الصينى إلى العالم. لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد;