أمس الأحد 15 يناير. مرت على مصر والوطن العربى والأمة الإسلامية 99 عاما على ميلاد جمال عبد الناصر. وفى العام المقبل يا ترى من يعش ويرى فى 15 يناير 2018 يكتمل القرن الأول على ميلاد جمال عبد الناصر الذى كان علامة فارقة فى تاريخ مصر الحديث، له ما قبله وما بعده. تحدثت مع هدى عبد الناصر وعبد الحكيم عبد الناصر عن الموضوع مبكرا. ولا أقول المناسبة. فمرور قرن على ميلاد عبد الناصر حدث شديد الأهمية، لا بد من الاستعداد له، ليس من أجل الاحتفال به. ولكن لنتوقف أمام تجربته بعقلية ناقدة، نطرح عليها أسئلة حول حكاية الرجل وتجربته وما فعله وما لم يفعله. ويجب ألا ننسى أن تجربة حكمه لم تتعد 18 عاما. 18 سنة فترة قصيرة. وإذا أدركنا حجم المعارك التى خاضها والحروب التى فرضت عليه، والأعداء الذين تكالبوا ضده، لا بد أن نعرف أن ما قام به أكثر من الكثير. فعبد الناصر صاحب مشروع متكامل وحقيقى لبناء مصر الحديثة. التوقف أمام التجربة فى عامنا المقبل ليس مسئولية أسرة عبد الناصر. ولا مهمة المصريين. ولا أبناء الأمة العربية. يستوجب الأمر الاستعداد العلمى له من الآن. بمعنى أن نطرح على أنفسنا سؤالا: ماذا سنفعل أمام تجربة عبد الناصر الإنسانية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وآثارها الباقية فيمن حولنا؟. كثير من المؤرخين يقارنون بينه وبين محمد على. يقولون إن محمد على صاحب التجربة الأولى لبناء مصر الحديثة فى السنوات الأولى من القرن التاسع عشر. أختلف معهم. فالفارق الجوهرى بين تجربة محمد على، وتجربة جمال عبد الناصر أن محمد على أسس دولة حديثة بمقاييس زمانها بل ربما سبقت زمانها بكثير من أجل أن تكون ولاية له ولأسرته. كان يؤسس مصر العلوية. التى يحكمها أبناؤه وأحفاده إلى أبد الآبدين. ليس معنى هذا أننى أنكر تجربة محمد على. ولا محاولة تأسيسه لمصر الحديثة. وأعترف بأن المصريين استفادوا كثيرا مما قام به محمد على. حتى لو تم هذا بالصدفة. ولا أحب أن يفهم من كتابتى أننى أغلقت فؤادى ووجدانى تجاه تجربة محمد على. فالرجل كشخص لديه من المزايا الكثير. وما فعله بمصر يوشك أن يصبح معجزة من المعجزات. لأن كتابة الرواية همى الأول فى الحياة، فقد تعاملت مع محمد على باعتباره بشرا. وكان لدىَّ ولا يزال اهتمام خاص بمحاولة الاقتراب منه كإنسان. لأن من يقوم بما قام به. لا بد أن فيه من المزايا الكثير. لكنى مصر على أن هدفه لم يكن بناء دولة للشعب المصرى، بقدر ما كان تأسيس إمبراطورية تتوارثها العائلة حتى قيام الساعة. وما زالت لدىَّ أسئلة بالنسبة لمحمد على، لم أجد إجابات لها، مثل: هل كان يعرف اللغة العربية؟ أم أنه قام بما قام به وهو لا يجيدها؟ ولدىَّ واقعة محددة تدفعنى للسؤال. ففى الكتب الإيطالية عن محمد على وتجربته كتاب يحكى أن بعثة إيطالية وصلت إلى الإسكندرية. كان مع البعثة آلة تلتقط صورا للناس. وكانت المرة الأولى التى تصل فيها هذه الأعجوبة إلى مصر. طلب محمد على أن تحضر البعثة إليه. سافرت البعثة من الإسكندرية إلى القاهرة. والتقوه. والتقطوا له الصورة الوحيدة التى يحفظها له التاريخ. ولأن التصوير كان بدائيا فى ذلك الوقت، جرى عمل رتوش لها. الواقعة المهمة فى الحكاية أن أحد أفراد البعثة حكى لمحمد على عبر المترجم أن لديهم فى إيطاليا كتابا يشرح فنون الحكم ومؤامراته. اهتم محمد على بالكتاب. أحضروه من إيطاليا. وأمسك محمد على بسكين وقسم الكتاب نصفين. وأعطى كل نصف لمترجم لكى يترجمه إلى اللغة التركية. التى لا يجيد سواها. باقى القصة موجود فى كتب التاريخ وتعليق محمد على، على كتاب ميكيافيللى موجود أيضا. ليس هدفى من الكتابة سوى تجربة عبد الناصر فى حكم مصر. وأنا أعترف بأننى لا أقدس أحدا. حتى لو كان عبد الناصر، البشر بشر. والرجل صاحب تجربة شديدة الأهمية. لكن لا بد من طرح أسئلة عليها. أحكى أنه عندما قامت ثورة يوليو، كان عمرى ثمانى سنوات. وكنت فى قريتى الضهرية مركز إيتاى البارود محافظة البحيرة. وقد سمعت من أبى يرحمه الله رحمة واسعة وهو يشير إلى شجرة ضخمة أمام دوار العمدة تبدو كالأم الرءوم. قال لى إن أى فلاح من الفقراء لم يكن يجرؤ أن يمر أمام دوار العمدة راكبا حماره. لا بد أن ينزل ويمر أمام الدوار على قدميه، ثم يعاود امتطاء الحمار بعد أن يبتعد عن المكان. أما الفلاح الفقير الذى يجازف ويمر أمام دوار العمدة راكبا حماره. يربط فى الشجرة إلى حين. وتخيل إنسان مربوطا فى شجرة عجوز فى مدخل قرية، ومدى الهوان الذى يمكن أن يحدث له، ويشعر به، ويطارده حتى آخر لحظة فى حياته. بعد سنوات من تلك الأيام، أصبح أبناء الفقراء وأنا واحد منهم يمرون على الدوار والسرايا مستقلين سيارات حضروا بها من البنادر التى تغربوا فيها، إما طلبا للعلم أو بحثا عن فرص للحياة. عندما أنظر لقريتى فى أربعينيات القرن الماضى، وقريتى فى ستينيات نفس القرن، وأعتقد أن قرى الريف المصرى حدث لها ما حدث لقريتى، أكتشف الكثير من المتغيرات غير العادية. نقلت الحياة من واقع إلى واقع. شهادتى مجروحة. وإن كنت أكتبها بصدق وأحاول أن أكون متجردا فيما أحاول كتابته، لأننا لا بد أن نعرف أنه بعد رحيل عبد الناصر أنفقت ملايين الدولارات للهجوم على تجربته. وأنشئت دور نشر لم يكن لها من عمل سوى الهجوم على عبد الناصر وثورة يوليو بصورة منظمة وممنهجة. ومن المؤكد أن هذا الجهد ترك أثرا حقيقيا عند من تابع من القراء. لا أريد ندوة تنصف عبد الناصر. لكن تحدث الأجيال الطالعة، بما قام به بشكل علمى. وتقدم شهادة خالصة لوجه الله ولوجه التاريخ. قد تساعدنا على معرفة الطريق. لمزيد من مقالات يوسف القعيد;