إلى حين انفراج أزمة الدواء بصورة لا يشعر معها المواطن بالانزعاج والقلق المبالغ فيه، ستظل مسبباتها نشطة ومتحفزة لإعادتنا بسهولة لمربع التوتر والهواجس بأسرع مما نتصور، مادامت أزمتنا تدور فى فلك النوازع والمصالح الشخصية لبعض أطراف لا يشغلها سوى ما سيتم حصده من عوائد مالية، والاعتماد الكلى على استيراد أدويتنا ومكوناتها من الخارج، فى وقت تثار فيه الشكوك فى مدى فاعلية الأدوية المحلية الصنع، فالثقة فى المنتج المحلى على وجه العموم مهزوزة ولا أود القول بأنها تقريبا غائبة ومفقودة. ومما نتابعه الآن من محاولات مكثفة للتخفيف من الهم العام الناتج عن الشكوى من نقص الأدوية وتسعيرها نلمس أننا ما زلنا بعيدين عن النقطة التى يمكننا الإحساس فيها بالارتياح والتأكد من أنها لن تنفجر فى وجوهنا ثانية، وتضغط على أعصابنا المشدودة على آخرها، والنقطة المستهدفة هى أنه لا مخرج آمنا سوى إنعاش صناعة الدواء المحلية بمختلف مراحلها المتصلة بالابتكار، والإنتاج، والجودة، ومستلزماتها من المواد الخام، والتسويق، والتنافسية العالية بحيث تصبح رافدا أساسيا يوفر لنا الجزء الأكبر من احتياجاتنا بسعر معقول ومتوازن فى متناول يد الجميع، ومصدرا لا ينضب من العملة الأجنبية التى تتحكم أسعارها المتصاعدة فى عملية تسعير الدواء، ونود أن يكون لدينا صيدليتنا الوطنية لنفتخر ونزهو بها، حتى لا نكون تحت رحمة احد من الداخل أو الخارج، وأن يتحول حلم «الدواء للجميع» إلى واقع محسوس. ذلك هو الهدف الاستراتيجى الذى يجب علينا السعى فى اتجاهه بكل قوتنا ودون انتظار، وأن يتضاعف عدد الشركات المصرية العاملة فى هذا المجال والبالغ فى الوقت الراهن 52 شركة فقط منها 8 حكومية وما تبقى يتبع القطاع الخاص، وأن تزيد صادراتنا من الأدوية على الرقم الهزيل المسجل فى دفاترنا وهو 265 مليون دولار العام الماضي. الهدف ليس مستحيلا وأمامنا نموذج رائد وبديع فى الهند التى أقامت بنجاح ساحق صناعة وطنية للأدوية شعارها المرفوع «الدواء حق للجميع» وتحتل حاليا المرتبة الثالثة عالميا من حيث الحجم، وال 13 فى القيمة، واستطاعت أن تنافس بقوة وشراسة على الساحة الدولية ولم تهب مناطحة شركات الأدوية المتعددة الجنسيات التى تبلغ مبيعاتها السنوية 800 مليار دولار، وأن تدخل شركاتها ال 300 للسوق العالمية 500 مركب دوائى فعال، وأن تسجل صناعتها الدوائية معدل نمو سنوى قدره 11٫7%، ويتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 15% ، ومن ثم ارتفاع عائدها إلى 55 مليار دولار بحلول 2020 - 20 مليار دولار فى 2016 فى حين لم تتعد وارداتها منها 1٫641 مليار، وبرعت وأجادت الشركات الهندية فى تصنيع عقاقير بديلة بلغت قيمتها 24 مليار دولار فى 2013. هذه الجزئية تحديدا تهمنا كثيرا ، لأننا نشكو من السعر الجنونى للأدوية المستوردة الذى لا يقدر على دفعه الكثيرون، فالهند استغلت ثروتها البشرية ومراكزها البحثية المتقدمة فى ابتكار أدوية بديلة للأمراض الخطيرة وغير خاضعة لبراءات الاختراع، من بينها الايدز، ففى حين كانت الشركات الأجنبية تطرح دواءه سابقا بما يتراوح بين 10 و 15 ألف دولار فى السنة، فإن نيودلهى قدمت بديلا بالمفعول نفسه فى القارة الإفريقية قيمته 350 دولارا، وبينما كان سعر السوفالدى لعلاج فيروس سى 3500 دولار أنتجت الشركات الهندية نسخة معدلة منه ب 2000 دولار تكفى لاستخدامها 12 أسبوعا، وبالمناسبة فإن صناعة الدواء الوطنية الهندية تلبى 70 % من حاجة السوق الهندية، ولا تعليق. لذلك لم يكن مستغربا أن تقوم هيئة الغذاء والدواء الأمريكية المعروف وزنها والتزامها الصارم بمعايير جودة لا تحيد عنها بمنح الهند العام الماضى حق انتاج 201 دواء بعد أن كانت 109 فقط عام 2015، وهو ما يبين قدر الثقة فى المنتج الدوائى الهندى الذى بات يستحوذ على 30 % من اجمالى الأدوية المتداولة فى السوق الأمريكية وتقدر مبيعاتها بما بين 70 و 80 مليار دولار سنويا. كذلك لم يكن غريبا موافقة هيئة الغذاء والدواء الأمريكية على تسجيل 550 موقع تصنيع هنديا، و350 موقعا لدى الاتحاد الأوروبي، فذاك اعتراف صريح وواضح بأن هذه المنشآت تتوخى أقصى درجات الدقة والمواصفات الموضوعة من جانب الكبار للسماح بدخول المنتجات الأجنبية إليها، خاصة إذا كانت لها صلة مباشرة بصحة مواطنيها فلا تهاون ولا مجاملات، فضلا عن اجتذاب هذه الصناعة استثمارات أجنبية مباشرة بلغت 13 مليار دولار خلال ال 16 عاما الماضية. كل هذا كان يتم تحت بصر وسمع الحكومة الهندية التى تولى قطاع الدواء اهتماما فائقا، وأخيرا أعلنت «خطة 2020» الرامية لتسويق الهند كدولة متقدمة فى هذه الصناعة ، وتعتمد الرؤية الحكومية على تقديم تسهيلات كثيرة، منها على سبيل المثال تقليص المدة المطلوبة لإنهاء تراخيص المنشآت الدوائية، وبناء 8 معامل صغيرة فى الموانى والمطارات لإجراء الاختبارات اللازمة للتأكد من جودة الأدوية المصدرة للخارج توفيرا للوقت والجهد، وتشجيع الشركات الحكومية والخاصة على الحد من استيراد المواد الخام من الخارج والاعتماد على المتوافر محليا، وتشكيل لجنة حكومية لتذليل العقبات والعراقيل التى تعترض شركات الأدوية بسرعة البرق، ورعاية مبتكرى الأدوية. لقد نهضت وانتعشت صناعة الدواء الهندية بفضل الثقة فى الذات، والدعم الحكومى غير المحدود، وتطوير البحث العلمي، والمهارات التصنيعية العالية، والحصيلة كانت قدرة تنافسية فائقة على المستوى الدولي، وألا يتحكم أحد كائنا من كان فى دواء المواطنين. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;