وفى ليلة الجمعة كانت موتتها.. بها كانت تتعلق بركات اليوم،وعليها تصلى الجموع فى واحد من أكبر مساجد القاهرة .. الكل يقف متضرعاً لا يطلب لها المغفرة فحسب، بل آملاً أن يصبح مثلها .. أن يجد نفسه يوم موتته، كما يراها الآن ! هو يريد أن ينظر فى عيون من حوله عند جنازته، فيجد هذه السكينة الممتلئة بالثقة فى نهاية سعيدة وهم يتركونه تحت الثرى، وقبلها يشهد تلك الدموع الهادئة الساخنة عليه .. يتمنى أن ينفذ إلى قلوبهم، فيجدها تنفطر من حزن موصول بالأمل والرجاء فى رحمة واسعة ، وبركات انزلها رب السماء على تلك الروح، وهى بيننا وحولنا، فى تلك الحياة .. ثم يأتى يوم الممات، وصعود الروح إلى ربها، وهى فى يوم فرحها الذى تنتظره من المهد إلى اللحد! تلك كانت موتة كريمة مختار، وقبلها كانت موتة جدتى .. فارق كبير بينهما هى كريمة مختار زوجة المخرج الكبير نور الدمرداش، بنت القاهرة التى تربت فى الروضة وتعلمت التمثيل، وعملت به اكثر من خمسين عاما ، والأخرى صاحبة الإبتدائية القديمة ابنة شيخ البلد، التى جاءت من القرية إلى المدينة فى رحاب زوجها الصعيدى، لتبدأ معه رحلة كفاح السنين فيموت وهى فى سن صغير، منذ أكثر من خمسين عاما، هى نفسها سنوات عمل كريمة مختار فى التمثيل ! الفارق بين كريمة مختار وجدتى كبير،فالأولى كانت " بنت المدينة" الساحرة الساهرة .. عاشت وفى فمها ملعقة من الراحة والشهرة وسعة العيش، وهى فى عصمة مخرج شهير، وبريق الفن ، ووهج الأخبار، والتعامل مع مشاهير ورموز الوطن . والثانية جدتى هى "بنت الريف" التى عاشت وعلى يديها، وفوق وجهها علامات نحتتها مكابدة الحياة لها، امتدت بها الأيام وهى تُطعم أبناءها من عرق جبينها .. بساطتها تتجاوز حدود المعقول إلى فقرالعيش، وجهدها بعد الله هو سندها، وبعزيمتها توفر بعض من وجبات أبناءها، والباقية تكون عطفاً، وطبطبةً، وتعليماً للصبر ! هذا الفارق الكبير بين كريمة مختار، وجدتى، لم يفصلنى يوماً عن شعورى بأنها جدتى الثانية، وتلك هى العبقرية الانسانية والفنية التى كانت عليها السيدة كريمة مختار التى جسدت أجمل مافى المرأة المصرية . وجاء يوم وفاتها ليعيش معى نفس الروح - روح - الفقدان ، والألم واليُتم ..أعاد إلى وجدانى مرةأخرى مشهد تمثيلها لحظة وفاتها فى دورها ماما نونة.. يومها انسابت الدموع خوفاً من رؤية تلك اللحظة لجدتى التى ربتنى منذ كان عمرى شهوراً ، ولكنى عشت حتى رأيته وهى بنفس الإبتسامة التى رسمتها ماما نونة فى مشهدها الشهير ! وبعدها بقيت ماما - أقصد جدتى - كريمة تُمثل الرمق الأخير لروح جدتى أمامى ، رغم الفارق الشديد بينهما، لكنها بعبقرية ال "هبة " التى منحها الله لها كانت نموذجاً لكل أمهات وجدات مصر فتراهها أمامك، وتعيش معها كأنها هى هى أمك، وكأنها هى هى جدتك . نعم ليلة الجمعة الماضية ماتت كريمة مُختار ، ولكنها لم تمت وحدها بل ماتت معها جدتى .. نعم اليوم ماتت جدتى !! لمزيد من مقالات حسين الزناتى;