في إحدى دراساته تحسر تشارلي جيمس، وهو أحد علماء التربية عن طريق الفن، على حال التعليم في بلاد كثيرة قائلاً: «عبر البلاد يموت العديد من الأطفال والمراهقين على مقاعدهم في المدرسة، والموت هنا روحاني وعقلي وانفعالي، ذلك لأن التعليم الأكاديمي قد تم فصل جذوره تمامًا عن الفن، وأصبحت الفنون هامشية بدلاً من أن تكون مركزية في تعليمهم وتربيتهم. نحن ضحايا تراث طويل وخاطئ، يفخر بطبيعة الإنسان المنطقية، إننا، بالطبع، يجب أن نفخر بأن الإنسان قد أصبح واعيًا، وأن وعيه يتكون من الإحاطة المستمرة بالواقع الداخلي والخارجي من أجل تكاملهما معًا في أشكال كلية جديدة، لكن هذا استنفد قوى الإنسان العقلية والشعورية والقيمية والحدسية والخيالية كلها، وكذلك وعيه الجسمي واستبصاراته الروحية». هكذا ينبغي أن يقوم التعليم على أساس الفنون والإبداع، وأن يستثير هذه القوى كلها، وهذا سيؤدي بطبيعة الحال إلى توسيع منظور الرؤية الخاصة بدراسة العلوم والسلوك والثقافة الإنسانية وكذلك الأنساق اللغوية وغيرها. وقد وجدت دراسات كثيرة أن التعليم يقوم بإخماد الإبداع، وأن مؤسسات التعليم، على كافة مستوياتها، قد تم تصميمها وتوجيهها من أجل أن تنقل المعرفة وترسخها وليس من أجل أن تهتم بالسلوك المغاير والأفكار المختلفة وأن تسعى وراء السلوك الاستكشافي والإبداعي والخيالي والمغاير والمختلف والذي يقوم على أساس الإبداع. ويستخدم مفهوم «الإبداع» عامًة كي يشير إلى العمليات العقلية التي تؤدي إلى الحلول والأفكار والتصورات والأشكال الفنية والنظرات أو المنتجات التي تكون فريدة وجديدة، وقد اختلف العلماء فيما يتعلق بنقاط التركيز التي اهتموا من خلالها بالإبداع فالبعض نظروا إليه باعتباره القدرة على إيجاد شيء جديد لم يكن موجودًا من قبل، بينما نظر آخرون إلى الإبداع باعتباره ليس مجرد قدرة بل مجموعة من العمليات النفسية تظهر من خلالها منتجات جديدة وذات قيمة عالية، هذا بينما نظر فريق ثالث إلى الإبداع باعتباره ليس قدرات وليس عمليات بل منتجات متميزة. وتعريفات الإبداع تتراوح وفقًا لجوانب تركيز العلماء على القدرات أو العمليات أو المنتجات أو سمات الشخصية أو عمليات التنشئة الاجتماعية أو ما شابه ذلك من الجوانب المناسبة. وتتراوح تعريفات الإبداع بدءًا من النظر إليه على أنه عملية بسيطة لحل المشكلات بطريقة مناسبة إلى إدراكه على أنه عملية تحقيق وتعبير كامل عن إمكانيات الفرد الفريدة والمتميزة. وهذا التنوع في مظاهر الإبداع والظاهر في تعريف هؤلاء له كان ظاهرًا أيضًا بشكل أكثر اتساعًا وعمقًا عبر تاريخ الدراسات السيكولوجية للإبداع، فالملمح المثير للاهتمامات في بحوث الإبداع هو ذلك التنوع الكبير المثير في الدوافع والاهتمامات والمناحي المميزة للباحثين المختلفين، فالإبداع نظر إليه على أنه استعداد شخصي وعلى أنه عملية داخلية وعلى أنه أسلوب للحياة، وتم وصفه أيضًا على أنه يوجد لدى كل الأطفال ولدى قلة فقط من الراشدين، وتم وصفه أيضًا على أنه هو الذي يؤدي إلى الابتكارات العلمية والمنتجات الفنية والأفكار الجديدة، وتم وصفه كذلك على أنه يرتبط – أو يماثل أحيانًا – الذكاء، القدرة الإنتاجية، الصحة النفسية، الأصالة، وتم وصفه على أنه يتحقق من خلال تحقيق الذات والتسامي وقمع الاندفاعات التدميرية. بالطبع هناك حاجة للتنظيم وإحداث التكامل بين الاتجاهات السيكولوجية المختلفة في تعريف ودراسة الإبداع. كذلك أشارت دراسات تورانس وزملائه إلى أن الإبداع لدى الأطفال والمراهقين يمر عبر سلسلة من المرتفعات والمنخفضات، وأن المنخفضات تعترض نمو الإبداع عند بداية مرحلة رياض الأطفال (سن 5 سنوات تقريبًا) ثم حوالي سن العاشرة ثم حوالي سن الثالثة عشرة وأنه في سن السابعة عشرة تقريبًا يحدث قدر معقول مع الاستواء أو الاستقرار في منحنى نمو الإبداع. وتتسق نتائج تورانس السابقة مع نتائج دراسات أخرى، تشير إلى انخفاض النشاط الإبداعي (أو الخيال) في سن الخامسة (وحتى السادسة) والعاشرة والثالثة عشرة من العمر، وقد حاول العلماء تفسير هذه الظواهر من خلال الاستفادة من أفكار ويلت السابقة وأيضًا من أفكار هاري ستاك سوليفان القائلة بأن هناك ضغوطًا شديدة في اتجاه المسايرة والتصديق الجماعي على الأفكار عندما يبلغ الطفل العاشرة، وأن الأفكار غير المألوفة من جانب الطفل قد يلام عليها أو يتم السخرية منها، وتتزايد هذه الضغوط نحو المسايرة مع انتقال الطفل إلى مرحلة المراهقة حوالي سن الثالثة عشرة، كما قد تكون لدى الطفل مشاعر بعدم الكفاءة وعدم الأمن حيث تكون هناك أدوار جديدة يفترض أن يؤديها ومن ثم يحدث كف للأفكار الإبداعية. كذلك أشار هؤلاء العلماء إلى أنه حوالي سن التاسعة وحتى العاشرة يكون هناك حالة من عدم الاتزان لدى الأطفال، مع حدوث ما يشبه الاضطراب في التنظيم البصري، كما تكون مظاهر النقص الموقتة شائعة في هذه الفترة ويكون أي تدريب بصري صعبًا. أما الانخفاض الذي يحدث ما بين سن الخامسة والسادسة فعادة ما يتم تفسيره من خلال ما يحدث خلال هذه الفترة من عمليات التعليم الزائد Over teaching للأطفال والتي تتضمن الاهتمام الكبير بتعليمهم مهارات القراءة والكتابة والحساب واهمال تعليمهم ما يرتبط بالفنون التي ترتبط بدورها بالإبداع، وهذا يؤدي كما يشير بعض العلماء إلى تنشيط وظائف النصف الأيسر من المخ (المنطقي – التحليلي – الواقعي – العقلاني – المتسلسل) وإخماد وظائف النصف الأيمن من المخ (الخيالي – الإبداعي – الكلي – التركيبي). على الرغم من تعدد الدراسات التي تعني بالظاهرة الإبداعية في مصر والوطن العربي، ومنذ تلك الدراسة الرائدة التي قام بها الدكتور مصطفى سويف حول «الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة» في أواخر أربعينيات القرن الماضي؛ إلا أن هذا التعدد لا يكشف حتى الآن عن تكامل وتناسق بين أنماط هذه الدراسات أو بين القائمين عليها أو بها، وكما يشير إلى ذلك أيمن عامر، «فكثيرًا ما كانت هذه الدراسات أشبه بالجزر المعزولة التي لا يوجد رابط بينها، ويظهر ذلك جليًا أيضًا في ظواهر عدة من بينها: ذلك التباين الملحوظ في حجم الاهتمام بجوانب الإبداع من فترة إلى أخرى، وكذلك عدم التناسب في حجم الاهتمام بأحد جوانب الإبداع (الشخص المبدع – قدرات الإبداع – العملية الإبداعية – الناتج الإبداعي ...إلخ) وأيضًا ذلك التكرار الملحوظ في نوعية الدراسات التي أجريت ما بين باحث وآخر وجامعة وأخرى بدون مبررات علمية واضحة». يضاف إلى ذلك ما يمكن أن نسميه ذلك الميل غير الإبداعي أو الاتفاقي الذي سيطر على دراسات الإبداع، فالكثير من هذه الدراسات والبحوث سارت على منوال ما قدمه جيلفورد وتورانس في الولاياتالمتحدةالأمريكية من تصورات واختبارات، حيث ترجمت هذه الاختبارات وأجريت بواسطتها عشرات بل مئات البحوث، وقد اهتم معظم الباحثين في المجال بعمليات تقنين الاختبارات ومدى توفر شروط الصدق والثبات فيها، لكنهم لم يهتموا كثيرًا بالدلالات والتضمينات التي قد تحتوي عليها نتائجهم بالنسبة لمجتمعاتهم، هكذا كان الأمر في معظمه أشبه بدراسات تجرى لأغراض الحصول على درجات الماجستير والدكتوراه أو من أجل الترقي في السلم الأكاديمي، ثم تنتهي علاقة البحث بصاحبه بمجرد حصوله على الدرجة العلمية أو الوظيفية المطلوبة. لكن يمكننا أن نلاحظ كذلك أن الاهتمام بالخيال كان هو البعد الغائب في دراسات الإبداع، والخيال هو جوهر الإبداع. ليس هناك خيال واحد هناك أنواع من الخيال، فالبعض خياله لغوي والآخر تشكيلي مكاني والثالث اجتماعي والرابع هندسي والخامس علمي أو تجاري أو معلوماتي وهكذا، وهذا الخيال هو الذي يتحول، بعد ذلك، إلى تفكير نسقي منظم نظامي مفيد في مجالات العمل والتطبيق. إن علينا أن نكشف الخيال السائد لدى تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات بأن نطورها، كلٌ حسب خياله. علينا في البداية أن نجعلهم على الفة بفكرة الخيال وأهميته بشكل عام، ثم نقوم بعد ذلك بتوجيه كل طفل أو مراهق أو راشد حتى حسب خياله المميز. ولعل تشجيع الناس على التحرر من الأنماط الثابتة والقوالب الجامدة في التفكير، وعلى أن يكونوا أكثر مرونة وأصالة، هو إحدى الطرائق الأساسية في تنشيط الخيال والإبداع، والعمل على تكوين بِنَى معرفية خاصة في ظل بِنَى جامدة مغلقة معاكسة.