فى عز حلقة الذِكر لمحنى بطرف عينه , يطوِِّح رأسه يمينا وشمالا , يرطِّب قلبه : «حى .. حى .. صلِّى على النبى» تذكرنى .. انفلت من الحلقة , ركبتاى ترتعشان , لم أكن جربت برد ليل القرية فى الشتاء , كان فستانى خفيفا فظلت أعطافى ترتعش , تقدم منى وألقى على ّ بردته , أحكمها من حولى امتننت , وشعرت بالدفء نظرت إليه وقد اختلجت شفتى بكلمة شكر , ربما لم يسمعها فقد عاد فى لمح البصر إلى حلقة الذِكر . « حى .. حى .. صلِّى على النبى « . احتضنت بردته , صوفها السميك بلون أسود غامق كليل بلا قمر. يتسلل الدفء مثل أرانب ناعمة الفرو , غنية بروح المحبة , آذانها الطويلة تصغى إلىّ , وعلى أنفها مثلثات صغيرة وشوارب رفيعة مشوكِّة , أعينها تختلج وتدور فى محاجرها بلطف , مكحولة أعينها بدمع يطل أحيانا فى حذر , وأحيانا فى ذعر . مم تخاف ؟ , مم ترتعش ؟ أدفأتها معى ببردته , أحكمها حولها فيبتسم من بعيد , يطِّوح رأسه كأنه لايريدها , يتركها على سجيتها لتذهب مع كل ريح , على وقع دقات الطبول التى يمسحونها بأيديهم , يشدون طاراتها بطريقة خاصة ثم يدقون عليها بكفوف مشوقة , وجهه يتوهج , يلهث يدخل فى زمرتهم بكامل طاقته , ينفعل بموسيقاهم من كل قلبه , يغلق هدبيه ويفتحهما لأجدنى بين هدبيه , يتقطر عرقه فلا يجففه بمنديله , أكاد أقوم لأدخل حومة الرجال لأجفف عرقه لكننى أدرك أنه لاينبغى أن أغادر موضعى حتى يعود لى . بعد عدة أدوار من الرقص المدوِّخ ارتمى بعضهم على الأرض , ونشط أكثرهم أما هو فقد شمّر عن ساعديه , واقترب من صحن كبير مغطى بشاش أبيض لايشى بما تحته , كانت أرغفة الخبز الأسمر محشوة بقطع من اللحم المسلوق , وأخرى كانت محشوة بالفول النابت , أخذ واحدا من هذا , وآخر من ذاك ووضعهما بين يدىّ وهو يبتسم . رمقنى أحدهم فقال : جمال ربانى انحنت امرأة عجوز على يدى فقبَّلتها مأخوذة بما تزينت به من عقود مضفرة من الخرز الأزرق والتركواز , أخفيت دهشتى وهى ترفع كفيها إلى السماء وتقول : حورية ياناس .. حورية ياهوه .. مدد ! . ثم التفتت إلىّ بغتة وضمتنى بقوة وهى تهمس : تعالى يا برهان العسل ! . خلصنى منها الرجل الذى وصفنى بالجمال الربانى , أبعدها عنى , وصاح بها : امشى!. انصاعت له ومضت . اقتربت أخرى وقد التمعت عيناها بشرر خاطف : مين دى ؟ ! . لم يجبها أحد , وعندما اقتربت منى , ترك صاحب البردة كل مافى يده , جاء مسرعا ودفعها بعيدا بكلتا يديه فنحاها جانبا . يتنهد الصديرى فوق ضلوعه بقليل من القطن وكثير من العرق , يتضرج وجهه بالحمرة , أتأمل ساعديه القويتين وقد شمَّر كميه فأوقن أنه قد منحنى بردته الصوفية للأبد بمجمرة أمسكت جيدا برقاب سلاسلها اقتربت , وهى تضع شيئا على سطح المجمرة تنثره بيدين واثقتين , كان خليطا من الشبّة والبخور . حوَّمت حولى بمجمرتها وهى تلقى بدفقة جديدة منهما فتزداد اشتعالا اقترب منها وهو يضع يده فى جيبه , وأخرج حفنة من العيون الملونة أصغر من حبات الحمص يلقيها فى المجمرة وهو يهمس : خذِى عينِ العفريت وامشى . مضت , وأنهضنى , أمسك بيدى بقوة , أحاط ظهرى بذراعه القوية , استسلمت لحنان بردته كطفلة تتعرف على وجه أبيها للمرة الأولى , سار بى إلى خيمة أخرى وهو يقول : ليلة مباركة سألته : حلقة ذِكر جديدة ؟ شد على ذراعى .. لازم تاخدى البركة ممن ؟ ابتسم , وأنا أسير كالمسحورة , عيناه الواثقتان , صوته الحميم , وجهه المضىء , كل التفاصيل تدفع بى إلى عالم جديد يتفتح لى , وطاقات نور وحنان تتدفق فى قلبى . إرادتى تعزز رغبتى فى التعرف على دنيا المولد خيمة خيمة , وقد أبعد عنى ذيول الخيبات , و ذكريات الفقد , و أحزانى التى تكثفها الوحدة كبخار على سماء حياتى . تقدمت معه إلى الخباء الجديد الذى كان مميزا , كان قماشه من اللون الأحمر وكانت معظم الخيمات لونها أخضر , وبعضها فقط كان ناصع البياض . على جدران الخباء الأحمر وجدت أبيات شعر مكتوبة بخيوط السيرمة الذهبية , وأخرى مشغولة بخيوط الصوف على مساحات واسعة من قطع الخيامية التى تشبه ماينصب فى الأفراح .. وردات كبيرة ضخمة زرقاء وصفراء وأخرى بلون غزل البنات فى تشكيلات بديعة , مكتوب على جوانب الخباء : « واللى صدق فى الحب قليل .. قليل وان دام يدوم يوم ولا يومين « . أما على الواجهة فقد كان هناك نقش بالقلم بخط جميل : « ده السعد وعد ياعين والإسم نظرة عين وأنا وانت روح مغرمة كان حظها م السما واتجمعوا القلبين « . وثم قلب مرسوم وفيه اسم جميل مكتوب بحرير أخضر « نور الدين « , وثم قلب آخر خال منسوج بحرير فستقى . خرج إلينا فى بردة مزدانة , كانت فيها كل ألوان التنورة البديعة , كان يدور بها فأخالها بيضاء ناصعة كقمر كبير عملاق لم تره عين , ثم يدور بها ثانية فأجدها بألوان الطيف كفرحة قوس قزح بعد نوبة مطر غزيرة , اقترب منا فانحنى صاحبى مقبِِِِِّلا يده , بينما اقترب هو منى وقبّل يدى , ثم اقترب من القلب الخالى المنسوج بخيط فستقى , وأخرج من جيبه قلبا أحمر سألنى برقة وعلى وجهه ابتسامة آسرة عذبة اسم الكريمة ؟ فقلت اسمى همس به فتأودت على شفتيه حروفه وهى ترقص نقش اسمى فى مربع القلب الخالى الفستقى وكأنه نقشه على كيان الوجود , ثم دخلنا جميعا إلى الخباء الأحمر , جلس صاحبى بعيدا وهو يعد لنا شرابا من توت ثم سألنى : كم قطعة سكر ؟ فيهمس ذو التنورة أنت لاتحتاجين إلى سكر وأشار للآخر : هات كأسى وكأسها فأتى بهما , وأمرنى أن أضع إصبعى السبابة فى الكأس تلو الآخر. تحسى كأسه ببطء حسوة .. حسوة وهو يهمس لى : يكفى هذا شهدا وعسلا فاجأنى وأخذ بيدى , قبض عليها بقوة فارتعشت مثل فرخ يمام زغيب . قال صاحبى من مجلسه : خذِى البيعة ... خذِى العهد مد ذو التنورة يده الممتلئة الضخمة , وكان فص خاتمه فى اليد اليمنى كبيرا بلون أزرق , وفص خاتمه فى اليد اليسرى متخما بفص قرمزى , وكانت ثمة خواتم صغيرة من فضة فى كل إصبع من أصابعه , وقد زين كل خاتم بفيروزة صافية . انسل صاحبى من باب صغير جانبى , كان متواريا فى جدار الخباء , وتركنى معه . اقترب منى بردانة ؟ نسى معى بردته , الجو بارد خارج الخيمة لاتقلقى .. خليها عنك وأنا سأعطيها له أشار إلى وسائد وتكايا بعيدة فى آخر الخيمة لأجلس . سأقرأ عليك كل مافى العهد , ستجدينه واضحا , نور قلبك سيضىء لك كل شىء , صدقينى , سنصل إلى تفاهم . صوته الآسر , نوعية التفاهم الذى سنصل إليه يتوقاننى , يشوقاننى . دار دورتين كاملتين أمامى ببردته , تعاقبت الألوان الأبيض الناصع كقمر عملاق لم تره عين , وألوان الطيف فرحة قوس قزح بعد نوبة مطر غزيرة , ألقى بولاعته فى حجرى لأشعل سيجارته قال : ستجدينها عندك فى علبة مذهبة ابتسمت وتابعت رقصته بانبهار , وصار قلبى يدق كمعزوفة رق , شخاليل , وطبل , وصهللة تقدم منى وطلب منى أن أشاركه الرقصة فاقتربت مشوقة إلى القمر العملاق الأبيض الناصع الذى يشرق من تنورته , بينما كان هو مولعا بألون الطيف , أمسك بيدى ودار بى , اقتربت من قماش التنورة , وجدت أسماء منقوشة بقلمه الأحمر , بخطه الجميل الذى أعرفه , وعلى جنبات التنورة أسماء نساء منقوشة بلون دم الغزال , وأخرى مموهة بلون الكوبيا , قبل أن أقرأ تفاصيل النقوش وطلاسم الأسماء , دار دورة أخيرة حول نفسه وهو يشهق بصوت عال , ويقذف بيديه دفقات من عين العفريت فى كل اتجاه . كان رقصه مدوِّخا , ارتفعت التنورة إلى الأعالى , تخلت عن جذعه فأبصرت ثعبانا ضخما يمتد من فرعه إلى جذوع الأشجار المجاورة , قبل أن يستدير ناحيتى أدركت الباب المخيط المتوارى الذى انسل منه صاحب البردة السوداء التى خليتها فى آخر الخيمة . كانت فرصتى الوحيدة والأخيرة فاندفعت أجرى بثوبى الخفيف بعيدا عن الدغل الكثيف , عن الأشجار التى صارت تزحف بأوراقها المتشابكة لتلتف على ساقى , نسيت خفىَّ لكنى انطلقت تحت نوبة غزيرة من المطر , تطلعت إلى السماء فلم أجد قوس قزح ولافرحة بألوان الطيف لكن القمر العملاق كان قد بدا لعينى ناصعا وأبيض ويرقص لى وحدى .