فى البدء تكون الرؤية الشاملة؛ التى لا يمكن بغيرها تجاوز الإخفاقات الموروثة وتخفيف معاناة الحاضر وتقليص تكلفة التقدم وتحقيق التطلعات المشروعة والمُسْتحَقة للأمة المصرية. وقد حملت مقالاتى على مدى عام 2016 رسائل لعام 2017 وربما لأعوام طويلة مقبلة، وجاء معظمها متعلقا بالتحديات التى تجابه الاقتصاد المصرى؛ وفى مقدمتها حتمية واستراتيجية التصنيع، وضرورة وفلسفة الإصلاح الاقتصادى، ومستقبل النظام الاقتصادى الاجتماعى. وقد سجلت، أولا، إننى أرى دون ريب أن قدرات مصر القائمة والكامنة تسمح لها بأن تصبح دولة صناعية متقدمة، لتثبت مجددا أنه كلما بدت وكأنه لن تقوم لها قائمة تنهض عفية جبارة قادرة على الريادة، كما برهنت فى كل حقب تاريخها الألفى. وعلى استراتيجية التصنيع أن تنطلق من رؤية متكاملة؛ تُؤمِن رأس المال اللازم للاستثمار والتمويل, وتُحفِز المنظمين والمبادرين والمبتكرين من الصناعيين, وتوفِر قوة العمل المتعلمة والمدربة والمؤهلة, وتطوِر منظومة ابتكار واستيعاب مواد ومعارف التكنولوجيا, وتوسِع السوق الداخلية والخارجية للمنتجات. ويقينا لا تصنيع بغير تنمية شاملة لأن مدخلاته ومخرجاته ترتبط بكل قطاعات انتاج السلع والخدمات، وبغير رفع معدلات الادخار والاستثمار المحلى، (نحو إستراتيجية لتصنيع مصر). وثانيا، إنه لا يمكن إلا أن تكون كبيرة الحجم الصناعات التحويلية الثقيلة التى تمثل الروافع الكبرى للتصنيع، ومنها الغزل والنسيج والصباغة والحديد والصلب والآلات والمعدات والهياكل المعدنية ووسائل النقل من سيارات وقاطرات وسفن والأجهزة الكهربائية وأجهزة الحاسبات والاتصالات والألومنيوم والأسمدة والأسمنت والبتروكيماويات وتكرير البترول واللدائن والمراجل. لكن التصنيع يتطلب الاهتمام الكبير بتنمية وتحديث المشروعات الصناعية الصغيرة والمتوسطة، التى تقوم- عبر روابطها الأمامية والخلفية مع الصناعات الكبيرة- بدور صناعات مُكمِّلة فتستخدم منتجات الغزل والنسيج والصباغة فى صناعة الملابس، مثلا، أو تقوم بدور صناعات مغذِّية فتنتج مكونات لصناعة السيارات، مثلا، (هل الصناعات الصغيرة ليست جميلة دائما؟). وثالثا، إن التعلم الإيجابى من الخبرة التاريخية المصرية، وخبرة سقوط النظم الأصولية سواء الإشتراكية أو الرأسمالية، يكشف أن معيارى مشروعية أى نظام اقتصادى اجتماعى، هما التخصيص الرشيد للموارد وعدالة توزيع الدخل. ويرتكز النظام المنشود إلى تكامل أمثل بين أدوار: الدولة والسوق، وقطاعى الأعمال العام والخاص، والتخطيط الوطنى والمبادرة الفردية، والانفتاح الخارجى والسيادة الوطنية. وتتضمن رؤيتى دورا حاسم الأهمية للرأسمالية الصناعية المصرية، شريطة أن تنهض بمسئولياتها المجتمعية والتنموية والوطنية؛ وخاصة باحترام الدستور والقانون، والتحرر من تضارب المصالح. وأعلنت باستقامة أن النظام المنشود يمثل أساس بناء دولة المواطنة، دولة كل مواطنيها- ومنهم الرأسماليون المصريون بكل شرائحهم- التى تحترم كل حقوق المواطنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية، دون تهميش أو تمييز. ورابعا، إن خطاب الرأسمالية الصناعية المصرية قد تضمن مطالب مشروعة ينبغى أن تستجيب لها الدولة، ومن ذلك بجانب مطلب حماية الصناعة الوطنية مطلب زيادة الطاقات الإنتاجية الصناعية بتشجيع إقامة المصانع الجديدة، وتوفير الأراضى اللازمة للصناعة ومدها بالمرافق والخدمات العامة، وتشجيع التوسع فى الطاقات الإنتاجية القائمة، وحصر الطاقات الانتاجية الصناعية العاطلة وتشغيلها، وتعميق التصنيع المحلى بإضافة مراحل جديدة الى عمليات الإنتاج الصناعى. وخامسا، إنه لا ينكر سوى جاهل أو حاقد مغزى الانجازات الكبرى فى مشروعات شبكة الطرق الرئيسية الجديدة التى تربط أنحاء المعمور وغير المعمور من أرض مصر، ومشروع قناة السويس مع تطوير الموانى والمطارات، ومشروعات بناء محطات الطاقة بكل أنواعها خاصة محطة الضبعة النووية، ومشروعات ربط سيناء بالوادى عبر شبكة من الأنفاق، ومشروع استصلاح واستزراع مليون ونصف مليون فدان اعتمادا على تنمية مصادر جديدة للمياه. لكن هذه المشروعات الكبرى للبنية الأساسية الإنتاجية والتوسع العمرانى، لن تؤتى كامل ثمارها المرجوة بتعزيز الأمن القومى والانسانى فى مصر مع غياب استراتيجية للتصنيع وسياسة صناعية وسياسات اقتصادية تستهدف جعل الأسبقية للاستثمار فى الصناعة التحويلية مقارنة بغيرها من قطاعات وفروع الاقتصاد (استراتيجية التصنيع والتوسع العمرانى). وسادسا، إن فكرة ربط التنمية ببرنامج اقتصادى واجتماعى متوازن ليست فكرة ثورية. ولم نفكر فى تمكين بلد معين من النمو فى إطار نوع الاقتصاد الذى يختاره شعبه وقيادته. فانه يمكن أن تتحرك الدول نحو اقامة اقتصاد السوق، وتنفذ عمليات الخصخصة، وتخفض الدعم الحكومى؛ وتجتذب رأس المال الخاص، وتحقق النمو.. الخ. ورغم هذا، فان التنمية يمكن أن تكون معرضة للخطر ولا تدوم، إذا لم تحارب الدولة الفساد، ولم تحشد تأييد شعوبها، واذا همشت الفقراء. وسابعا، إن الدولة المصرية قد أقدمت وبجسارة على اتخاذ قرارات اقتصادية صعبة، أهمها: خفض قيمة الجنيه، وتقليص دعم الطاقة، فى مواجهة اختلالات جسيمة فى موازنة الدولة وميزان المدفوعات فرضت اصلاحا ماليا ونقديا، وهذه هى الضرورة التى ينبغى تفهمها. وقد أشاد صندوق النقد الدولى بالقرارات؛ فوافق على تقديم أولى دفعات قرضه الميسر لمصر، مع ربط بقية الدفعات- كعادته- بتقديره لمدى استمرارية التزام الدولة بمواصلة تنفيذ سياسات الإصلاح، بغض النظر عن الأعباء الاجتماعية الثقيلة لهذا الإصلاح على محدودى الدخل، وبغير ربط بينه وبين تسريع التنمية وخاصة عبر التصنيع لتعظيم الانتاج والانتاجية، وهذه هى الفلسفة التى يتوجب تجنبها (فلسفة الإصلاح المالى والنقدى). لمزيد من مقالات د. طه عبدالعليم