بعد صدور القانون الجديد لتشكيل منظومة جديدة للإعلام المصرى يمكن ان نقول انها خطوة على الطريق بعد سنوات طويلة من حالة التسيب والانفلات التى أصابت هذا القطاع المهم من مؤسسات الدولة في ظل غياب كامل لقرارات الحسم والإصلاح وتعديل المسار وأيضا في ظل غياب كامل لمؤسسات الدولة بكل أطيافها..نحن الآن أمام مؤسسات جديدة كان ينبغى ان تتجسد أمامنا بمسئولياتها ومهامها منذ زمان مضى ولكن علينا الآن ان نصلح ما فسد وهو ليس بالقليل.. ان مسئولية أجهزة الإعلام الجديدة عليها أعباء كثيرة تبدأ بتصفية رواسب الماضى وهى كثيرة وتنتهى عند استشراف آفاق لمستقبل يضع مصر فى مكانها ومكانتها الصحيحة خاصة ان هذا الماضى لم يعد يتناسب مع ظروف العصر والحياة وهنا يجب ان نضع أمامنا رؤى جديدة لإعلام جديد.. لم تعد تصلح مدارس الإعلام العتيقة التى قامت على التقسيمات السياسية والأيديولوجية التى أفسدت واقعنا الثقافى والفكرى وضيعت أجيالا كثيرة ما بين تيارات سياسية لم تضف شيئا للواقع السياسى المصرى بل زادته تخلفا واستبدادا ولا يعقل اننا حتى الآن مازلنا ندور فى فلك الناصريين والساداتيين واليسار واليمين والمتدينين والكفار ومازلنا نتعامل فى قضايا الفكر بمنطق انت لست معى فأنت ضدى وتركنا الملايين من شبابنا فريسة سهلة للإرهاب والتخلف وضيق الأفق والرؤى المريضة.. مازلنا بعد هذا العمر نجد شللا وفصائل ضيعت عمرها فى انقسامات وقضايا خلافية فات أوانها حول الاشتراكية والانفتاح والخصخصة وحقوق الإنسان الضائعة والحريات المسلوبة رغم اننا لم نحقق انجازا فى اى منها فلا نحن نجحنا فى إخراج الناس من سراديب الفقر ولا نحن أقمنا دولة صناعية رأسمالية غنية ولا نحن واكبنا مسيرة العصر فى التقدم والمعاصرة ورقصنا دائما على الحبال وقد جاء الوقت ان ينسحب من المشهد كهنة هذه العصور فلم تترك لنا غير الصراعات والأوهام والانقسامات والتخلف..جاء الوقت لكى تدرك فصائل الماضى انها بفكرها وانقساماتها لم تعد تصلح لبناء وطن جديد ويكفى الذى ضاع وهنا ينبغى ان تدرك الدولة ان أساليب الماضى لم تعد تصلح الآن فى ظل مجتمع جديد وعالم متغير. رغم كل الإيجابيات التى جاءت بها الثورات فى السنوات الأخيرة وهى كثيرة إلا انها تركت أسوأ آثارها على الإعلام المصرى حين اختلطت السياسة بالمال والإعلام وافسدوا كل شىء..لقد تركت لنا الثورة زعامات إعلامية رقصت ما بين لغة السياسة ولغة الإعلام ولغة المال والمصالح وكانت النتيجة هى خلط الأوراق وتضليل المواطنين وغياب الحقيقة وسقوط معايير المهنية الإعلامية والرسالة السياسية ودور رأس المال الحقيقى والمطلوب الآن ان يعود الإعلام إعلاما بحرفيته ومسئولياته وان تعود السياسة الى زعاماتها الحقيقية ويعود رأس المال خادما لمصالح المجتمع وقضاياه ان عنتريات الإعلام المصرى لم تكن أبدا فى صالح قضايا هذا الوطن..قد يكون البعض فى هذه العنتريات قد كسب الأموال وحقق الشهرة ورفع اسهم المعارك الوهمية وقد يكون سوق الإعلان قد حقق أرباحا خيالية أمام فكر متخلف وثقافة مريضة إلا ان الشىء المؤكد ان حرفية الإعلام المصرى قد ساءت وان الحقيقة قد غابت وانه خسر الكثير جدا من مصداقيته نحن امام إعلام أفسد حياة الشعوب وشوه فكرهم وأفسد العلاقات بين أبناء الوطن الواحد وتاجر فى الدولار وفى البشر وفى كل القيم الرفيعة. فى فترة قصيرة خسر الإعلام المصرى اهم أركانه وهى الإحترام والمصداقية والدور, ومن يريد ان يعرف الحقيقة عليه ان يراجع علاقات مصر الخارجية وكيف أساء لها الإعلام, وعليه ان يسأل الناس فى اعماق مصر عن رأى الشعب فى إعلامه وعليه قبل ذلك ان يسأل الدولة لماذا تركت الإعلام لكل هذا الضياع.. من اغرب الأشياء التى قام بها الإعلام الإساءة لدول شقيقة وقد حدث ذلك مع الجزائر بسبب مباراة فى كرة القدم فى زمان مضى ثم كانت العلاقات المصرية السعودية وما أصابها من سهام إعلامنا المغرض و كان من سخرية القدر ان يهاجم الإعلام المصرى الوهابية فى السعودية وانها من اسباب تخلف العقل المصرى, وأن الخليج كان سببا فى تراجع الثقافة المصرية والشئ المؤكد ان العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة, وهذا يعنى اننا فى يوم من الأيام كنا نقدم الثقافة الجادة ولهذا ابهرت العالم العربى لأنها مترفعة وجيدة وحين انحدرت هذه الثقافة لم تجد من يروج لها..وإذا كنا نعاتب الآخرين على الفكر الوهابى فمن حقهم ان يردوا علينا اننا اصحاب ومروجو الفكر الإخوانى ان التراشق الإعلامى أوشك أن يدمر علاقات تاريخية لها جذورها ومصالحها وعلاقات امتدت سنوات طويلة بين البلدين الشقيقين كان ينبغى أن تسكت هذه الأصوات من البداية وقبل أن تدخل بنا فى سرداب طويل مظلم من سوء الفهم وغياب الحقائق وان الثقافة المصرية حين سقطت فى مستنقع الصراعات والأيديولوجيات وأصحاب المصالح فقدت أهم ثوابتها وهى الوسطية والمصداقية والرسالة ولابد ان نعترف ان معظم هذه الخطايا روجها الإعلام وشارك فى صناعتها ما بين عنتريات كاذبة ومصالح مغرضة وأهداف مشبوهة.. هناك إعلام يبنى الجسور ويزيد الترابط بين الشعوب وهناك إعلام يدمر كل شىء ومن حق أى سلطة أن تختار حوارييها بشرط ان تحسن الإختيار. كان اختلاط الأوراق فى الإعلام المصرى من أخطر الظواهر التى أفسدت دوره حين وجدنا كل إنسان يتحدث فى كل شىء فأصبح الحديث فى الدين حقا لكل من هب ودب وانقسم الناس حول دينهم من يراه معجزة ومن يشوه صورته كل يوم وهنا وأمام 30 مليون لا يقرأون ولا يكتبون وقف نصف المصريين يتساءلون أين الحقيقة أمام ثوابت دينية قامت عليها كل مقومات حياتهم ومطلوب ان تتغير فى أحاديث ساذجة وحوارات سطحية وأناس يبحثون عن المال والشهرة والبريق على حساب الدين بعد ان فشلوا أن يحققوا شيئا من ذلك بالفكر الجاد والرؤى الموضوعية.. لقد أشعل الإعلام المصرى معارك وهمية فى كل شىء ابتداء بإفساد عقول الناس بالفتاوى وانتهاء بتشويه رموز دينية وفكرية لها مكانتها فى قلوب الناس وتدور المعارك ما بين المهدى المنتظر والمسيخ الدجال وحكايات الجن والعفاريت..ان الأديان وجدان وفكر وحين نسقط منها الوجدان فنحن نخسر الكثير ان العقل مطلوب ولكن العقل الذى آمن بالله هو نفس العقل الذى استخدم أسلحة الدمار الشامل وقتل بها ملايين البشر ومنذ غابت مصر الفكر والثقافة والدين الصحيح عن إعلامها انتشرت الخفافيش وملأت السماء جهلا وظلاما.. على الإعلام ان يدرك مسئولياته المهنية والأخلاقية وألا يتجاهل مسئولياته الوطنية ان العنتريات قد تبنى أمجادا شخصية مغرضة وحين يتعارض ذلك مع بناء الأوطان يجب ان تكون لنا وقفة.. أن تشويه كل شىء وتدمير معتقدات الناس تحت أى مسمى وخلط الأوراق والحقائق وتضليل العقول وإفساد الشباب وتغييب الإنسان عن قضاياه الحقيقية وأساليب الردح والحوار الهابط والفن الرخيص كل هذه الأشياء مارسها الإعلام المصرى فى السنوات العجاف وجاء الوقت لكى يطهر نفسه وإذا لم ينجح فى ذلك فلابد ان يخضع لعمليات جراحية يتخلص فيها من رواسب الماضى البغيض وأمراض الحاضر الكريهة.. إن المرحلة الأولى من قانون الإعلام الجديد يمكن ان تكون خطوة أولى على طريق طويل ممتد فيه دروس من الماضى قد تكون مفيدة وفيه أيضا انكسارات من الحاضر لابد ان تضع لها الدولة حدودا..لا أحد يعارض حرية الإعلام ولكن لا توجد حرية بلا مسئولية..ان هذا الإعلام الطائش يشبه العربة الطائشة لا احد يقودها ولا احد ايضا يعرف حدود مخاطرها.. فى السنوات الماضية حدثت توسعات كثيرة جدا فى الإعلام المصرى وتسللت إليه أموال كثيرة بعضها نظيف والبعض الاخر افتقد الشفافية والمطلوب من الدولة المصرية ان تضع قواعد واضحة وصريحة لأساليب تمويل الإعلام المصرى حتى لا يبقى مرتعا للمغامرين والمتآمرين وقراصنة الفرص.. لقد شوهت رءوس الأموال الغامضة والسرية صورة الإعلام المصرى أمام عناصر مشبوهة وقد جاء الوقت لكى يتخلص الإعلام من هذه الصفحات المخجلة..هناك وجوه كثيرة فى الإعلام المصرى جاء الوقت لكى تختفى تماما فى ظل منظومة رشيدة لإعلام حقيقى بل ان هناك أموالا كثيرة تسللت إلى جيوب تعرفها أجهزة الدولة الرقابية ولابد ان يكون هناك وقت وزمان للحساب وهناك اشخاص قاموا بأدوار مشبوهة لحساب جهات كثيرة ولابد ان يعرف الشعب الحقيقة. إن منظومة الإعلام ليست فقط إقامة مؤسسات أو إصدار قوانين ولكنها سياسة دولة تجاه مؤسسة من أهم واخطر مؤسسات الحكم.. ان الإعلام المصرى ليس دولة مستقلة ولكنه جزء من الدولة المصرية وحين تخلت الدولة عن دورها ومسئولياتها وصلنا إلى ما نحن فيه الآن من السطحية والبلاهة والانقسامات وغياب الهدف ولعل نقطة البداية ان نضع أقدامنا على الطريق الصحيح بحيث يعود الإعلام لدوره ورسالته.. إن الإنقسامات التى تشهدها الساحة الإعلامية الآن تمثل خطرا شديدا على مستقبل هذا الوطن, والغريب ان الدولة فى أحيان كثيرة اختارت الأبواق الخطأ وكان ذلك على حساب ثوابت كثيرة تلاشت أمام غياب الشفافية والمهنية الصحيحة. كما قلت جاء الوقت لكى يشعر الإنسان المصرى ان إعلامه يعمل لحسابه وليس لحساب أطراف أخرى مجهولة الاسم والعنوان, وان على الدولة ان تحترم عقل أبنائها وان تضع نهاية لهذا العبث وليكن قانون الإعلام الجديد أول الطريق. ..ويبقى الشعر يا عَاشقَ الصُّبح وجهُ الشَّمْس ينشطِرُ وأنجُمُ العُمْر خلفَ الأفق تنتحِرُ نهفُو إلى الحُلم يَحْبُو فى جَوانِحِنا حَتَّى إذا شبَّ يكْبُو..ثم يندثرُ يَنْسابُ فى العَيْن ضوءًا..ثم نلمحُهُ نهرا من النار فى الأعماق يستعرُ عمرٌ من الحُزْن قدْ ضَاعتْ ملامحهُ وشرَّدتْهُ المنى واليأسُ..والضَّجرُ مَازلت أمْضِى وسرْبُ العُمْر يتبعُنى وكلَّما أشْتدَّ حلمٌ..عَادَ ينكسرُ فى الحُلم مَوتى..مَعَ الجلادِ مقصَلتِى وَبينَ مَوْتى وحُلمى. .ينْزفُ العمُرُ إن يَحْكم الجهلُ أرضًا كيفَ ينقذهَا خيط من النُّور وسْط الليل ينحسرُ؟ لن يَطلعَ الفجرُ يومًا من حناجرنَا ولن يصونَ الحمى منْ بالحمَى غدرُوا لن يكْسرَ القيدَ مَنْ لانتْ عزائمُهُ ولنْ ينالَ العُلا..مَنْ شلهُ الحذرُ ذئبٌ قبيحٌ يُصلِّى فى مَسَاجدنَا وفوْق أقْدَاسِنَا يزهُو..ويفتخِرُ قدْ كانَ يَمْشى على الأشْلاءِ مُنتشيًا وَحَوْله عُصْبة ُ الجُرذان تأتمرُ من أينَ تأتى لوجهِ القُبْح مكْرمة ٌ وأنهرُ الملح هل يَنْمو بها الشَّجَرُ؟ القاتلُ الوغْدُ لا تحميهِ مسْبَحة حتى إذا قامَ وسْط البيتِ يعتمرُ كمْ جاءَ يسْعَى وفى كفيه مقصلة ُ وخنْجَرُ الغدر فى جنبيهِ يستترُ فى صفقةِ العمْر جلادٌ وسيِّدُهُ وأمَّة فى مزادِ المْوتِ تنتحِرُ يَعْقوبُ لا تبتئسْ..فالذئْبُ نعْرفُه منْ دمِّ يوسُف كل الأهْل قدْ سكرُوا أسماءُ تبْكى أمامَ البيتِ فى ألم ٍ وابنُ الزُّبير على الأعْناق ِ يحتضرُ أكادُ ألمحُ خلفَ الغيْبِ كارثة ً وبحرَ دَمِّ على الأشلاءِ يَنْهَمرُ يومًا سيحْكى هنا عَنْ أمَّة هلكتْ لم يبْق من أرْضِها زرعٌ..ولا ثمرُ حقتْ عليْهم مِنَ الرَّحْمن لعنتُهُ فعِنْدَما زادَهم من فضْلِه..فجَرُوا يا فارسَ الشِّعر قل للشِّعر معذرة ً لنْ يسْمَعَ الشِّعرَ منْ بالوحْى قدْ كفرًوا واكتبْ على القبْر : هذى أمَّة رَحَلتْ لم يبق من أهْلها ذكرٌ..ولا أثرُ
قصيدة «كانت لنا أوطان» سنة 1997 [email protected] لمزيد من مقالات يكتبها: فاروق جويدة