تقوم صناعة العطورعلى عصرأطنان من الورد. وأعتقد أنّ ماكتبه نجيب محفوظ فى (أصداء السيرة الذاتية) هوعصارة خبرته فى الحياة والإبداع، فصاغ فلسفة عشق الحياة وتعظيم قيمة التسامح وإدانة التعصب، فى مقاطع قصيرة، يصلح كل مقطع أنْ يكون (بذرة) رواية، فإذا به يجعل من (البذرة) ثمرة مكتملة النمو. فكان أشبه بصانع العطورالذى يحصل من أطنان الورد على (الرحيق) فى زجاجة صغيرة. ومع تصاعد البؤس الاجتماعى يتخيّل محفوظ مجذوبًا يُذكّرنا ب (دون كيخوتة دى لامنتشا) فى رائعة الأديب الإسبانى سرفانتس. هذا المجذوب وقف فى ميدان عام ((يضرب بعصاه فى جميع الجهات كأنما يقاتل كائنات غيرمنظورة)) وعندما سأله الشيخ عبدربه ((ماذا تفعل؟)) قال ((كنتُ أقاتل قوة جاءتْ تروم القضاء على الناس. ولكن لم يفهم عملى أحد ولم يعاوننى أحد)) وهكذا نرى صورة أخرى للسلبية. وفى مقطع (التسبيح) يسقط رجل ضحية لعملاق جبار((شاهد الناس الجريمة وتواروا فى برج الخوف. رفضوا الشهادة. ومضى القاتل آمنًا). وربط محفوظ بين حب الحياة وعشق المرأة. فنجد الراوى فى مقطع (المنشود) يعيش الشيخوخة والعزلة. وفجأة يدق الجرس وتدخل امرأة تندمج فيما هومندمج فيه. ويختتم هذا المقطع قائلا ((حتى آمنتُ بأنها الوعد المنشود)) أما فى مقطع (الغوص فى الماء) فإنّ الراوى يجلس على شاطىء البحر. يرى امرأة جميلة. شعر بأنها ترحب به. قامتْ متوجهة نحو الماء. تبعها. خاضا فى الماء معًا دون أنْ يلقيا على ما وراءهما نظرة واحدة. ورأى محفوظ أنه لاتعارض بين عشق الإنسان للحياة وبين التدين المصرى. ففى مقطع (النصيحة) يقول الشيخ ردًا على سؤال من أحد مريديه ((نحن نعمل لنرتزق ولانتسول. نُقبل على دنيا الله ولانعرض عنها. قرة أعيننا فى العشق والسكر. وسياحتنا الليلية فى التأمل والذكر)) وهذا الفهم للعلاقة بين التدين المصرى وعشق الحياة، عبّرعنه محفوظ فى مقطع (الطامة) حيث المرأة التى تُلبى نداء الشوق ولكنها ((كانت شديدة الإيمان بالعفوالرحيم)) وفى مقطع (الدرس) صورة أخرى لهذا الفهم العميق بين التطرف الدينى وأسلوب الحياة، حيث نجد الراوى يحرص على حضورحلقة ذكرللإنشاد الدينى، بينما لايهتم بمنظرالرجل العجوزالذى صادفه فى الطريق وهويبكى. اهتم محفوظ بمعالجة قيمة التسامح. ففى مقطع (المعركة) صديقان نشبتْ بينهما خصومة. ذهبا إلى الخلاء واقتتلا حتى نزفتْ الدماء منهما. لم يكن معهما أحد، فيقول الراوى (( لزم أنْ نتعاون لتدليك الكدمات. ونتعاون على السير. وفى أثناء الخطوالمتعثرصفت القلوب. ثم لاح الغفران فى الأفق)) وفى مقطع (الصفح) يقول الراوى لصديقته ((إنك ضحية القسوة والأنانية)) فترد عليه ((بل إنى ضحية الحب)) ولما قرأتْ الدهشة فى وجهه قالت ((أنت تتوهم أنّ سلوكهم معى صادرمن قسوة وأنانية. الحقيقة أنه صادرمن حبهم الشديد لأبنائهم. وهكذا كنتُ أحبهم. ومن أجل ذلك صفح قلبى عنهم)) وفى مقطع آخرلخّص الشيخ عبدربه قيمة التسامح قائلا ((أقوى الأقوياء من يصفحون)) الشيخ عبدربه التائه شخصية مهمة فى (أصداء السيرة الذاتية) فهومتعدد الأبعاد، عاشق للحياة، نشعر بأنه بوهيمى، ثم ندرك أنه فيلسوف. فى أول صورة له يقول عنه الكاتب (( كان أول ظهورله فى حينا حين سُمع وهوينادى: ولد تائه يا أولاد الحلال)) ولما سُئل عن أوصاف الولد المفقود قال ((فقدته منذ أكثرمن سبعين عامًا، فغابتْ عنى جميع أوصافه)) فهل نحن أمام رجل معتوه؟ أم أنّ هذا التظاهربالعته وراءه إنسان حكيم؟ فى مقطع (سؤال عن الدنيا) سأ ل الراوى الشيخ عبدربه عما يقال عن حبه للنساء والطعام والشعروالمعرفة والغناء، فأجاب جادًا ((هذا من فضل الملك الوهّاب)) ولما أشارله الراوى عن ذم الأولياء للدنيا قا ل ((إنهم يذمون ماران عليها من فساد)) وفى مقطع (الثبات) رأى الراوى عبدربه ماشيًا فى جنازة، وهولايُشيّع إلاّ الطيبين، فسأله عن المرحوم فقال ((رجل نبيل، رفض رغم طعونه فى العمرأنْ يُقلع عن الحب حتى هلك)) وعندما سُئل هل تحزن الحياة على أحد؟ أجاب: نعم إذا كان من عشاقها المخلصين. هذا العاشق للحياة يرى أنّ ((نسمة حب تهب ساعة تُكفّرعن سيئات رياح العمر كله)) وينصح اليائسين قائلا ((إذا راودك خاطراكتئاب فعالجه بالحب والنغم)) وعندما جاءه قوم توقفوا عن الحياة حتى يعرفوا معنى الحياة، قال لهم ((تحرّكوا دون إبطاء، فالمعنى كامن فى الحركة)) وعن العلاقة بين الحياة والموت قال ((مانكاد نفرغ من إعداد المنزل حتى يترامى إلينا لحن الرحيل)) وإذا كان الموت حتميًا، فلماذا لانُرحّب به مثل الحياة؟ ويرى أنّ على الباب الذهبى للحياة جوهرتيْن: هما الحب والموت. وأنّ أشمل ((صراع فى الوجود هوالصراع بين الحب والموت)) فى عام 1932ترجم نجيب محفوظ كتاب (مصرالقديمة) تأليف جيمس بيكى. وفى عام 39 كتب رواية (عبث الأقدار) وفى عام 43 كتب رواية (رادوبيس) وفى عام 44 كتب رواية (كفاح طيبة) الكتاب المترجم والروايات المذكورة عن الحضارة المصرية، عندما كان المصريون يتكلمون عن تاريخ مصر القديمة، أمثال سليم حسن، محرم كمال وسليمان حزين وآخرين، ولكن نجيب محفوظ– فى أواخرحياته– يلاحظ انصراف غالبية المصريين عن حضارتهم، فيرصد وهويكتب (أصداء السيرة الذاتية) هذا التجاهل للجذور، ويُلخّص موقفه على لسان (أبو الهول) الذى يقول للشيخ عبدربه ((كنتُ سيد الوجود، ألم ترتمثالى العظيم؟ ومع شروق كل شمس أبكى أيامى الضائعة وبلدانى الذاهبة وآلهتى الغائبة)) وإذا كانت هناك مفارقة بين العنوان (الخلود) وبين مضمون حديث (أبو الهول) فإنّ المعنى والرسالة التى يتضمّنها مقطع (الخلود) هى أنّ على شعبنا المصرى أنْ يهتم بحضارة جدوده، وأنّ خلود الشعوب والأوطان يتمثل فى تواصل الأجيال. وهكذا تكون ( أصداء السيرة الذاتية ) قد جمعتْ بين فلسفة الحب والحياة والموت والواقع الاجتماعى وعشق الوطن.