تلقيت دعوة كريمة من الأستاذ أحمد زين مدير مجلة «الفيصل» التى تصدر عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية لكتابة مقال ينشر فى ملف عدد نوفمبر من هذا العام تحت عنوان «لماذا التنوير الآن؟» وأظن أن هذا الملف بهذا العنوان هو الأول من نوعه فى المملكة العربية السعودية. وفى هذا السياق جاء عنوان مقالى «إشكالية التنوير فى العالم العربي». وأنا هنا أوجزه على النحو الآتي: إذا كانت الإشكالية تنطوى على تناقض فالسؤال اذن.. أين يكمن التناقض فى التنوير؟.. كان للفيلسوف الألمانى العظيم كانط مقال عنوانه «جواب عن سؤال: ما التنوير؟» (1784) ويمكن إيجازه فى شعاره القائل: «كن جريئاً فى إعمال عقلك». وقد كان يقصد به ألا سلطان على العقل إلا العقل نفسه. وترتب على ذلك القول بأن قياس مدى التنوير مردود إلى مدى سلطان العقل. والسؤال اذن.. أين تكمن أزمة العقل فى إشكالية التنوير؟.. فى نوفمبر من عام 1978 انعقد فى الجزائر «مهرجان ابن رشد». وإذا بأبحاث المهرجان، فى معظمها، تُضعف من شأن العقل عند ابن رشد. مثال ذلك القول بأنه يجب إخراج الصراع الفلسفى بين الغزالى وابن رشد من مجال البحث الفلسفى لأنه ينطوى على نبرة انفعالية فى حين أنه كان، فى رأيى، الصراع التاريخى الذى حدد مسار العالم العربى فى اتجاه الأصولية الدينية التى تبطل إعمال العقل فى النص الديني. ومثال ذلك أيضاً القول بأن ابن رشد لا يلجأ إلى التأويل إلا للضرورة، وحتى هذه الضرورة إن وجدت إنما تدلل على أن ظاهر الشريعة يؤيد ما نذهب إليه من تأويل. وفى مارس من عام 1980 اجتمع فى باريس أربعون عضواً من مشاهير مفكرى العرب لتأسيس «حركة تنوير عربية». والمفارقة هنا أن ذلك الاجتماع التأسيسى كان هو الأول والأخير، أى أنه قد أصيب بالفشل.والسؤال اذن.. لماذا فشل؟..وأجيب بسؤال.. لماذا انعقد ذلك الاجتماع فى باريس ولم ينعقد فى أى بلد عربى خاصة وأنه يدعو إلى حركة تنوير عربية؟ لأننا لم نعثر على بلد عربى يقبل استضافة ذلك المؤتمر. وهنا أستعين بحوار دار بين اليسار المصرى وتوفيق الحكيم فى يناير 1975. وفى ذلك الحوار كان رأيى أن أوروبا قد مرت بحركتين للتنوير: «تحرير العقل» و«التزام العقل بتغيير الوضع القائم». أما الدول العربية ومن بينها مصر فلم تمر بهاتين الحركتين. وقد وافق توفيق الحكيم على هذا الرأي، ثم استطرد قائلاً: لقد ارتددنا إلى الوراء من بعد العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين بسبب الرجعية الدينية الخرافية التى لا تتفق مع جوهر الدين، ولكنها تتستر باسم الدين لتلغى دائماً دور العقل. وهنا تذكر توفيق الحكيم المقالات التى كان يكتبها فى عام 1939 بمناسبة صراعه مع السلطة الدينية. ومن هنا دعا إلى ضرورة نشر العلمانية فى التفكير وفى المنهج العلمي.إلا أن هذا الصراع الذى تحدث عنه توفيق الحكيم كان سابقاً على زمانه. ففى عام 1834 أصدر رفاعه رافع الطهطاوى كتاباً عنوانه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» جاء فيه أنه ترجم اثنتى عشرة شذرة لمفكرى التنوير الفرنسى ومع ذلك وضع شرطاً لقراءة هذه الشذرات وهو التمكن من القرآن والسُنة لأنها محشوة بكثير من البدع وبها حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية. والشيخ على عبد الرازق فى كتابه المعنون «الاسلام وأصول الحكم» أنكر الخلافة الاسلامية بدعوى أنها ليست من الخطط الدينية ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، إنما كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، إنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل. وكانت النتيجة محاكمته أمام هيئة كبار العلماء بدعوى أن كتابه يحوى أموراً مخالفة للقرآن الكريم والسُنة النبوية وإجماع الأمة ثم صدر الحكم بطرده من وظيفته. واللافت للانتباه أن كتاب الشيخ على عبد الرازق قد صدر بعد عام من الغاء الخلافة الاسلامية فى تركيا. ومن هنا يمكن القول بأن قرار هيئة كبار العلماء بطرد الشيخ على عبد الرازق يتضمن ضمنياً انحياز هؤلاء إلى الخلافة الاسلامية. وكل ما هو حادث من ارهاب تثيره حركات اسلامية أصولية وغيرها إنما هو من أجل إعادة الخلافة. والسؤال بعد ذلك: هل فى الامكان تأسيس تيار تنويرى للخروج من أزمة التنوير؟ جوابى بالايجاب بشرط تأسيس رشدية عربية لمواجهة الأصوليات العربية على أن تكون مكونات هذه الرشدية كالآتي.. إن للنص الدينى معنيين أحدهما ظاهر والآخر باطن. مشروعية إعمال العقل فى النص الدينى للكشف عن المعنى الباطن وهو ما يسمى بالتأويل. عدم تكفير المؤول بدعوى خروجه عن الاجماع. وفى هذا المعنى قال ابن رشد «لا يقطع بكُفر مَنْ خرج على الاجماع» فى كتابه المعنون «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». الدخول فى علاقة عضوية بين الرشدية العربية والرشدية اللاتينية حتى يزول التوتر الحاد بين العالم الاسلامى والعالم الغربي، ومن ثم تتوارى عبارة «تصادم الحضارات». لمزيد من مقالات مراد وهبة;