فى الأسبوع الماضى أشرنا لتحول مفهوم التعددية الثقافية لتوجه فكرى وسياسى بعد الحرب العالمية الثانية ليصبح ظاهرة مقبولة فى المجتمعات الغربية فى ستينيّات القرن الماضى، دعمتها مواثيق دولية اقرت حماية حقوق الأقليات وقبول الآخر على أساس المواطنة. وباقتراب الألفية الثالثة ونتيجة لعدة ظواهر أثارت قلق دول الغرب بدأت مراجعة جدوى مفهوم التعددية. فمع تعرض هذه الدول لتراجع اقتصادى ألقى بعض مواطنى هذه الدول تبعات مشاكلهم الاقتصادية والمجتمعية على تزايد أعداد المهاجرين واللاجئين الوافدين إليها.كذلك فبقدر ما اسهم التطور التكنولوجى فى تحويل العالم لقرية صغيرة، بقدر ما خلق حالة من العزلة الاختيارية من خلال غرف الدردشة وظهور جماعات مغلقة على نفسها تعبر عن رؤى خاصة على الشبكة العنكبوتية،مما عمق الاحساس بمخاطر التطرف الفكرى وادى لحالة من التوجس بين أبناء الحضارة الغربية خوفا على منظومة مجتمعاتهم، قابلتها خشية شعوب الدول النامية والأقليات من ذوبان هوياتهم الخاصة واندثار ثقافتهم.وبظهور ارهاصات التطرف الفكرى وتصاعد القوى الاسيوية المناوئة للغرب تبلور على استحياء اتجاه إعادة النظر فى مفهوم التعدّدية الثقافية وتطبيقاتها. وعقب أحداث 11 سبتمبر 2001 اصبح ما كان يتم تداوله على استحياء فى الاوساط السياسية الغربية ،خاصة اليمينية،مطروحا على الملأ وأصبحت نظرية فرنسيس فوكوياما (نهاية التاريخ التى حذر فيها من تصاعد القوى الاسيوية والدول الاسلامية)، خاصة مع بداية العقد الثانى من الالفية الثالثة، موضع نقاش رجل الشارع العادى الذى استشعر الخطر واعتبر أنّ الاقليات و اللاجئين الذين يتعذّر دمجهم فى المجتمع يمثلون تحديا للديمقراطيات الغربية ، وأصبحت مناهضة مفهوم التعددية الثقافية أوعلى الاقل اختزالها ،مثلما دعا فوكوياما فى العلاقة بالأفراد وحقوقهم فى المواطنة، أمرا واقعا لا يمكن تجاهله . فى هذا السياق جرى الترويج لتصريحات سياسية ولأطروحات فكرية تعددت عناوينها وإن حملت نفس المضمون المناهض لفكرة التعددية من قبيل «موت التعدّدية الثقافية» و«حدود التعدّدية الثقافية» و«ما بعد التعدّدية الثقافية». فعلى صعيد السياسة ظهرت تصريحات لكبار الساسة (مثل انجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا، ودافيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا، ونيكولا ساركوزى الرئيس الفرنسى السابق وعدد من النواب فى ايطاليا وهولندا) تعلن فشل سياسة التعددية الثقافية وتروج لفكرة الاندماج القسرى الممثلة فى شعار «اندمج أو ارحل»، من منطلق إن تجربة تعايش المجتمعات المختلفة فى دولة واحدة لم تنجح. فى نفس السياق تبنى اتجاه الاصولية التنويرية الدفاع عن قيم الحداثة فى المجتمع الغربى معتبرا التنوير حصنا يجب الدفاع عنه وحمايته من التطرف الإسلامى من مهاجرى «العالم الثالث» الذين لا يتقيدون فى الغالب بالقيم الأوروبية ولا بقواعد السلوك العام فى شوارع مدنها(!!). وتحت شعار «عنصرية اللا عنصريين» هاجم الفيلسوف الفرنسى باسكال بروكنر فكرة التعددية الثقافية من حيث كونها تؤدى إلى تفكيك المجتمع وإيجاد مجموعات متعددة معزولة عن بعضها تتّبع قيماً مختلفة. كذلك حذر الكاتب باتريك جيه بوكانن فى كتابه «موت الغرب» من تغيير وانهيار منظومة قيم المجتمع الغربى بسبب غزوات المهاجرين من العالَم الثالث. وخلص بوكانن إلى أن أمريكا والغرب يواجهان أربعة أخطار تتمثل فى ارتفاع نسب مجتمعات الشيوخ بالمقارنة بالشباب وتشوه شكل الهرم السكانى فى مقابل هجرة جماعيَّة لشعوب ذات معتقدات وثقافات مختلفة، قد تؤدِّى لتغيُّر شخصيَّة الغرب وظهور ثقافة معادية له ولثقافته ،إضافة لمشكلة انحياز بعض النخب لظهور حكومة عالمية، بما يعنى نهاية استقلال دول الغرب و ذوبان هوية كل منها وانسحاق ارادة الغرب التى عبر عنها بقوله «الغرب على ما يبدو تعوزه الرغبة أو الإرادة لاستدامة نفسه بوصفه حضارةً حيويَّة، مستقلة، فريدة». ودعا «بوكانن» للحد من سَيْل الهجرات والتصدى للقيم الثقافية الوافدة وإدماج المهاجرين فى المجتمع الغربى عن طريق المناهج التعليميَّة واهتمام دول الغرب خاصة الولاياتالمتحدة بأوضاعها وسياساتها الداخلية بدلا من محاولاتها الفاشلة لتدخل فى نزاعات لا تخصها. وإذا كان فيما سبق ما قد يفسر نتيجة الانتخابات الرئاسية الامريكية اخيرا وتصاعد سطوة التيارات اليمينية، فما هى تداعيات ذلك على دول لا تنتمى للمحيط الغربى وتتجلى هويتها فى مفردات ثقافاتها الشعبية ؟! وللحديث بقية.. لمزيد من مقالات سناء صليحة;