فى زيارة قصيرة لبيروت للمشاركة فى أعمال الاجتماع السنوى لشبكة الحوار فى المنطقة العربية، وهى الشبكة التى بادرت بالعمل على تأسيسها الهيئة القبطية الانجيلية للخدمات الاجتماعية منذ عام 2004، اجتمعت قيادات للمنظمات الاثنتين والعشرين العضوة فى الشبكة. وهى القيادات التى تعمل على أن تكون فاعلة فى ادارة حوار مجتمعى فى الاقطار العربية، كل على حدة، وبين منظمات المنطقة العربية مجتمعة من اجل مواجهة تلك الانشطارات المتعددة المخطط حدوثها على المنطقة العربية، وكذلك فى مواجهة تلك الصراعات الحادة التى تجرى هنا وهناك بين البعض من المختلفين دينيا، اجتمع هذا العدد الجيد من القيادات المحلية فى العديد من البلدان العربية لمناقشة التجارب المختلفة التى يقومون بها وطرح نتائجها. ضمن هذا العدد من القيادات قابلت الاستاذ جواد الخوئى استاذ كرسى حوار الاديان فى جامعة الكوفة، وهو الكرسى الذى دعمته، ولا تزال تسانده، منظمة اليونسكو، احدى الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة والمعنية بالثقافة والتربية والتعليم. فى كلمته التى ألقاها فى اجتماع الشبكة، وعرف فيها أنشطة المنظمة التى يرأسها، قدم الاستاذ جواد الخوئى صورة موزاييك واسعة ومعقدة لوطنه العراق سواء فى مكوناته الاثنية أو الدينية والكبيرة أو الصغيرة. وهو يرأس منظمة أهلية طوعية تنتمى لما نسميه بفضاء المجتمع المدنى اسم المنظمة منظمة المجلس العراقى لحوار الأديان ونشاطها قوميا يمتد إلى كل أنحاء العراق. مثل هذه المنظمات لم تكن أن تؤسس أو يعلن عنها أثناء الحكم البعثى العراقي، كما كان العراقيون الرسميون دائما ما يناقشون ويتحدثون معنا على انهم كلهم واحد لا تعددية تحدد اختلافات فى صفوفهم الا إذا لاحظنا جامعا به تمايز هندسي. فى حديث سريع مع الاستاذ جواد الخوئى تم طرح هذا الموزاييك الواسع العريض. كما اشار إلى ان صورة العراق التى يتم تصديرها الآن هى تلك التى تتم فيها الانفجارات والاغتيالات والحروب الطائفية وخاصة بين السنة والشيعة. ولكن بجانب هذه الاحداث، التى هى حقيقة واقعة، تنمو فى قلب المجتمع العراقي، بكل مكوناته وأطرافه، حركة جماهيرية واسعة فى شكل منظمات تعنى بالمواطنة والتسامح والعيش المشترك بين كل الإثنيات وبين كل اتباع كل الاديان. بلا تمييز أو إقصاء. وإنما بروح الاستيعاب والاندماج فى بوتقة الوطن العراقى الديمقراطي. وهو عمل ليس سهلا لأنه يدخل ضمن ذلك الصراع الديمقراطى العام الذى يميز مرحلة التحول الكبيرة التى يتم انجازها ببطء ولا تزال بلا وعى شعبى كامل، وشرح الناشط الديمقراطى القادم الى بيروت من النجف ان هذه الحركة تضم آلاف النشطاء من المثقفين والطلبة والأكاديميين والفنانين والعمال والنساء، تسعى كل هذه المكونات مجتمعة من كل المجموعات الأثنية ومن كل أتباع الأديان ان تقف موحدة مع العراق وشعبها فى مواجهة العنف والاحتلال والتجزئة. ولا يمكن القول ان هذه الحركة قد نضجت ووصلت، أو أوشكت، على انجاز واستكمال التحول الكبير، ولايزال امام العراقيين الكثير حتى يتوصلوا إلى اهدافهم. ولكن ان تؤسس هذه البداية وتنتشر بالتدريج افضل من انتظار المجهول. ومن أجل إنجاح هذا العمل الأهلى الناشئ كان على القائمين على تأسيس هذه المكونات المدنية أن يعترفوا بحقيقتين أساسيتين. هما: أولا،إقرار وجود هذا التنوع الواسع والاعتراف به كعامل أساسى فى المجرى الأساسى للدولة العراقية. والاعتراف به كتنوع عراقى وطنى يثرى الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية فى البلاد ويجعلها تظهر على حقيقتها المتنوعة، والحقيقة الثانية هى أن هذه المكونات المتنوعة العديدة التى تنتمى للمجتمع المدنى تسعى لإعلاء قيمة المواطنة والعيش المشترك بين الجميع وأن العراق لابد أن يتحول الآن إلى وطن جاذب لأبنائه وليس مقصيا لهم وديمقراطي وليس مستبدا. وقال الأستاذ جواد الخوئى إن منظمته «منظمة المجلس العراقى لحوار الأديان» نظمت منذ شهور لقاء فى أربيل الكردية حاولت فيه جمع ممثلين من كل الأديان لفتح نقاش حول حرية العقيدة الدينية وممارستها. فى هذا اللقاء دعت المنظمة، على سبيل المثال، ممثلين عن سبع عشرة طائفة مسيحية توجد على الأرض العراقية وفى حدودها التاريخية. ثم اكتشفت المنظمة أن الرقم المدعو لم يكن يمثل كل المكون المسيحي. بما يعنى أن أمام المنظمة مهام كثيرة لابد من العمل على توضيحها والتعرف عليها والعمل على المزيد من استيعابها. وتقع ذات المسئولية على كل المنظمات الأخرى التى تقوم بالعمل من اجل المساهمة فى تحقيق الديمقراطية فى البلاد. ويضيف الأستاذ جواد ان العراق يضم بجانب هذه الطوائف المسيحية الكلدانية والانجيلية والانجليكانية والكاثوليكية والدومينيكان والطوائف المسيحية الشرقية القديمة وغيرها من الطوائف المسيحية التى يجب ان تحترم حتى تستطيع المشاركة فى صياغة مستقبل البلاد.كما يضم الشيعة الذين نتحدث عنهم ككتلة، فى حين أنهم ينقسمون إلى طوائف متعددة. وكذلك السنة الذين ينقسمون بدورهم إلى طوائف اربع أو خمس، كما يضم العراق مواطنين مجوسا ويهودا وبهائيين. أما الأيزيديون الذين عانوا الأمرين من قهر تنظيم داعش فهم ليسوا كما قيل عنهم وعن عبادتهم للنار. أما هذا المزيج الدينى فهو دائما ما يصاحبه مزيج عرقى شديد التعددية، فالعراق لا يضم عربا وكردا فحسب وإنما بجانبهما يعيش الترك والتركمان والشبك والككاثية والكرد الصوفية كما يضم عراقيين من اصول افريقية اصيلة يسكنون الجنوب. لدى العراق مزيج واسع من المتدينين ومن الاجناس. وكانت كل هذه المكونات تمارس عملية عدم قبول الآخر ولو صمتا. ولكنها الآن تتحرك حتى تمحو عادة رفض الآخر لتحل محلها قيمة قبول الآخرين والتعايش معهم وإعلاء قيمة المواطنة التى تساوى بين الجميع. لا يستطيع احد ان يؤكد ان المسألة الديمقراطية العراقية ستجد طريقها إلى الحل بين يوم وليلة. بل على العراقيين أن يعملوا بجد وبفهم عميق لمجتمعهم للوصول إلى تلك الحالة الديمقراطية التى تتعايش فيها الأديان والاجناس بلا إقصاء وبلا قهر. وهى مرحلة طويلة تحتاج بجانب كم الجهد والعمل فإنها تحتاج الزمن والوقت لأن العقول لا تتغير بسرعة، وإنما تحتاج إلى مراحل للتغيير واجيال من التطور. يقول الاستاذ الخوئى ان مراحل التحول ليست مراحل سحرية. كما ان نتائج التجارب ليست سحرية كذلك. إن بناء جيل جديد من المؤمنين بقيم المواطنة والتعايش المشترك والديمقراطية يحتاج أولا لقرار سياسى حتى تتحرك منظمات التنشئة الاجتماعية كالتعليم والاعلام والثقافة بجانب عمل منظمات المجتمع المدنى التى تؤسس اليوم فى العراق من اجل ان تلعب دورها فى عملية البناء. لمزيد من مقالات أمينة شفيق