فى عهد الخديوى عباس حلمى الثانى وقبل ما يزيد على مائة وعشرة أعوام صدر أول قانون لتشغيل وترخيص المحال العامة عام 1904 وبعدها بخمسين عاماً تم إلغاء هذا القانون ليصدر من مجلس قيادة الثورة قانون جديد عام 1954 ليستمر العمل به لأكثر من ستين عاماً ولا يزال هذا القانون هو المعمول به حتى الآن فى هذا الشأن .. دون أى دهشة...!! هذا هو الواقع من الناحية التشريعية وزاد عليها صدور العديد من القرارات واللوائح الخاصة بالعديد من الإدارات والجهات ذات الصلة بموضوع القانون والتى تم ربطها به بحكم التطور الاجتماعى والإسكانى والعمرانى على مدار الستين عاماً الماضية. ولما كان ذلك هو الوضع الراهن فان من حسن الطالع الإعلان عن تصدى مجلس النواب لتحديث هذا القانون وإلغائه وإصدار قانون جديد يناسب التطور الجارى فى المجتمع والاقتصاد ... حيث قدم بالفعل 60 نائبا من أعضاء مجلس النواب وبالتعاون مع الاتحاد العام للغرف التجارية مشروع قانون جديد لترخيص وتشغيل المحال العامة ليعالج هذا العوار التشريعى ويعالج حالة الشلل التى أصابت إصدار التراخيص وتسيير الأعمال بشكل قانونى ... فمن الطبيعى أن طول مدة عمل القانون أفقده صلاحيته بحكم الزمن وكثرة التدخلات أكسبته عدم المرونة بحكم التعارض الذاتى مما أدى إلى وضع أصبح استخراج ترخيص يحتاج لعامين فى المتوسط وبتكاليف فلكية خاصة مع ارتفاع تكلفة الفساد والإفساد الذى أنتجه تعدد وتعارض اللوائح والقوانين والقرارات بما جعل الالتزام مستحيل حتى إذا توافرت الإرادة النزيهة وجعل الصواب غير ممكن حتى لو صدقت النوايا... ويعالج مشروع القانون المذكور مشكلة طول مدة الحصول على التراخيص بجعلها أسبوعين فقط ويعالج أيضاً مشكلة التعدد الإدارى من خلال إنشاء لجنة عليا تتبع وزارة التجارة والصناعة ولها فروع فى مختلف المحافظات على أن يرأس هذه اللجنة الوزير المختص .. وبدأت بالفعل اللجان الفرعية داخل المجلس مناقشة تفاصيل القانون ولذلك أصبح من الضرورى أن نلقى الضوء على عدة نقاط هامة وهى:- أولا:- أن القواعد القانونية المجردة التى ترد فى القانون دائماً ما يحتاج تطبيقها إلى لائحة تنفيذية تتطلب بدورها صدور قرارات إدارية على كل المستويات وفى كل الجهات حتى يمكن التعامل بها وإذا كان المُشرع قادرا على تفهم الحاجة لإصدار القانون والهدف من بنوده فإن ذلك ليس مضموناً فى كل المراحل التالية وهو ما يحتاج إلى أن يضمنه القانون بنصوص واضحة مانعة لأى تلاعب محتمل سواء بقصد أو بدون قصد. ثانيا:- أن القانون يجب أن يتضمن حلولا عملية لعدم تعارض الاختصاصات بين الجهات الحكومية فإذا كانت بنود القانون قد أعطت للمحافظ سلطة تحديد مواقع بعض الأنشطة وسلطة الحظر فى بعض المناطق فان ذلك يجب أن يقابله شفافية فى الإعلان عن ضوابط هذه الصلاحيات وأن تكون معلنة للكافة وأن تتضمن الخرائط الاستثمارية للمحافظات تحديد واضح لهذه المناطق وأنواع الأنشطة المسموح بها والممنوعة وما هو متاح وما هو غير متاح. ثالثا:- يجب أن يتضمن القانون آليات واضحة لحل حالات التعارض بين الجهات الحكومية فى هذا الشأن دون أن يكون لذلك أثر سلبى على المستثمر وهناك مثال ناجح جداً فى شأن تراخيص المحال السياحية والقانون المنظم له ويمكن الأستفاده منه ومن هذه التجربة مع إضافة ما يلزم لها من تعديلات ضرورية. رابعاً:- بالنسبة للبنود العقابية يجب أن يتم التعامل معها بمفهوم فلسفة القانون على اعتبار أننا أمام قانون منظم لنشاط اقتصادى فالعقوبة يجب أن تتناسب مع حجم المخالفة وأن يتم استبعاد العقوبات السالبة للحرية إلا فى حالات الإضرار العمدى بالأرواح أو الممتلكات بحيث تصبح العقوبة محفزة للالتزام وليست مانعاً للنشاط ... وقد يرى البعض أن هذا الموضوع يحتل مساحة من الاهتمام أكبر من حجمه ولكن الصحيح أنه رغم كل القرارات الاقتصادية والخطوات الجادة نحو جذب الاستثمارات إلا أن موضوع التراخيص يظل من أهم العقبات الفعلية التى تواجه الاستثمارات لأنها هى مرحلة الاحتكاك المباشر بالجهاز البيروقراطى للدولة ومن ثم يكون من الصعوبة بمكان التوصل لحلول سريعة لها دون تكاليف ضخمة ومخاطر قانونية كبيرة لأن المستثمر فى هذه المرحلة يتعامل مع موظفين -مع كل احترامنا لهم- من المستويات الوظيفية البسيطة التى تملك التعقيد ولا تستطيع المستويات الأعلى فرض حلول دون موافقتها خاصة مع قدرة هؤلاء الموظفين على قراءة القوانين واللوائح بأكثر من وجه وأكثر من طريقة ... وهو ما يضع المستثمر فى حلقة مفرغة ويجعله بين خيارات صعبة جداً قد لا يستطيع تحملها فيصبح عدم الدخول فى السوق أفضل والخروج منه أكثر أماناً. وليس سراً خافياً على أحد أن هناك استثمارات ضخمة قد خرجت من السوق المصرى بسبب عدم قدرتها على التعامل مع هذا الملف مثل شركة ماكرو الألمانية أحدى أكبر شركات تجارة التجزئة فى العالم قد خرجت من مصر قبل ثلاثة أعوام لعدة أسباب على رأسها عدم قدرتها على استخراج تراخيص لممارسة نشاطها فى مصر وهناك أيضاً شركة شوبرايت أكبر شركات تجارة التجزئة فى جنوب إفريقيا والتى خرجت من السوق لنفس الأسباب تقريباً هذا بالإضافة إلى الكثير من المصانع والمنشات المتوقفة لأسباب مماثلة ولذلك رحبت الأوساط الاقتصادية بالقرار الصادر من المجلس الأعلى للاستثمار بمنح تراخيص مؤقتة لمثل هذه المنشات حتى تساهم بدورها فى تنمية عملية الإنتاج وتكون مثالاً واقعياً للاستثمارات الراغبة فى دخول السوق المصري. ولذلك يجب أن يدرك المُشرع أنه أمام قانون حاسم فى اتخاذ القرارات الاستثمارية وليس مجرد قانون أجرائى ولكنه محدد من محددات الدخول إلى السوق المصرى وأن يتعامل معه فى أطار فلسفة وأهداف الإصلاح الاقتصادى وليس فقط الفلسفة القانونية المجردة.