فى محاولة جادة للتخلص من آثام الماضي، وفى درس بليغ لباقى القوى الاستعمارية، والقوى الكبرى التى لا تزال تعربد حتى يومنا هذا فى دول متفرقة، اتخذت الحكومة الهولندية موقفا جريئا يحسب لها بالإعلان عن فتح تحقيق فى جرائم القوات الهولندية خلال الحرب العالمية الثانية، وتحديدا فى إندونيسيا. فقبل أيام، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن رئيس الوزراء الهولندى مارك روته قوله إن إعدام آلاف الإندونيسيين على يد جيش بلاده فى الفترة ما بين عامى 1945 و1949، وتحديدا خلال النزاع الذى تلى إعلان استقلال إندونيسيا، سيشكل موضوع تحقيق معمق للمرة الأولى برعاية حكومة هولندية. ووصف روته فى مؤتمر صحفى هذه الحقبة من التاريخ الهولندى بأنها «صفحة قاتمة من التاريخ» و»مرحلة مؤلمة للجميع». ووفقا للمعلومات التى نشرت، فسوف تتولى مهمة إجراء هذا التحقيق ثلاثة معاهد هولندية، من بينها المعهد الوطنى للتاريخ العسكري، ومعهد الدراسات حول الحرب، ومحرقة اليهود وحملات الإبادة. وتعود قصة هذه الجرائم إلى الفترة التى لقى فيها آلاف الإندونيسيين مصرعهم فى النزاع الذى وقع فى الفترة بين إعلان استقلال إندونيسيا والاعتراف الهولندى بهذا الاستقلال فى عام 1949. ففى تلك الفترة، وكما يقول تقرير الوكالة الفرنسية، طوقت القوات الهولندية عدة قرى إندونيسية، وقتلت من وصفتهم ب«المتمردين»، بدون أن يكون ذلك مصحوبا بأى إجراءات قانونية أو محاكمات. وتشير التقديرات المتعلقة بالضحايا إلى سقوط أكثر من 40 ألف قتيل فى تلك الفترة، غير أن بعض الدراسات التاريخية قدرت هذا العدد بنحو ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف شخص. ومن الناحية التاريخية، تعود بداية الاستعمار لإندونيسيا إلى القرن ال17، حيث كانت إنجلتراوهولندا تتنافسان على استغلال جزر الهندالشرقية، حيث كان لكل منهما قواعد حربية فى جزر بانتن ومكاسار وجاكرتا وآمبون، وأثناء حروب نابليون عام 1816 تركت إنجلترا معظم جزر الهند بما فيها الجزر الإندونيسية لهولندا لتضعها فى مواجهة مع فرنسا وروسيا, بينما استطاعت هولندا استغلال هذه الفرصة وأقامت فى الجزر الإندونيسية العديد من المشروعات الاستثمارية, فى محاولة لعزلها عن العالم, وكانت أول قاعدة عسكرية لها فى جزيرة باتافيا فى القرن ال17, ثم سيطرت على مساحات شاسعة من الأراضي, كما تمكنت هولندا من أنشاء نظام زراعى قسرى مثل «مزارع العبيد» عام 1830 تزرع بموجبه العديد من المحاصيل التى كانت تلبى الاحتياجات الأوروبية . وكانت هولندا قد اعتذرت رسميا فى عام 2013 عن المجازر التى ارتكبتها فى إندونيسيا، مؤكدة أنها تريد إغلاق هذا «الفصل الصعب» من تاريخها مع مستعمرتها السابقة. كما رأت محاكم هولندية من قبل أنه يتعين على الحكومة الهولندية دفع تعويضات إلى أرامل وأيتام الضحايا الذين ما زال كثير منهم على قيد الحياة. ومن جانبها، رحبت ليسبت زيجفيلد محامية عائلات الضحايا بقرار فتح تحقيق، وقالت : «كنا نعرف الكثير أصلا عما حدث، ولكن حان الوقت لكى تتحمل الحكومة مسئولياتها وتقدم دعمها»، من أجل كشف الحقيقة. ويرى المؤرخ الهولندى ريمى ليمباخ فى دراسة مخصصة لهذه القضية أن القوات الاستعمارية الهولندية استخدمت «عنفا مفرطا ومنهجيا» وليس متقطعا لوقف التمرد. وجدير بالذكر أن إندونيسيا كانت قد أعلنت استقلالها عام 1945 مع رحيل اليابانيين الذين احتلوا الجزء الأكبر من الأرخبيل قبل استسلامهم فى الحرب العالمية الثانية، وحاولت حينئذ استعادة مستعمرتها السابقة. وعلى الرغم من أن ما ذكره رئيس الوزراء الهولندى ما زال فى حاجة إلى توضيح، وللمزيد من التفاصيل، فإن الخطوة التى اتخذتها حكومته تعد خطوة جريئة وشجاعة، خاصة وأنها تدرك جيدا أن القضاء الهولندى نفسه أقر بمبدأ دفع تعويضات إلى أسر الضحايا، كما تعد هذه الخطوة درسا يحتذى به بالنسبة للقوى الكبرى التى استعمرت دولا فى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وعلى رأسها بريطانياوفرنسا، وارتكبت الكثير من الجرائم المماثلة، وسرقت ونهبت ثروات شعوب هذه الدول، وتركتها تعانى حتى يومنا هذا من أزمات اقتصادية وعرقية طاحنة، وإذا خرج أحد من قادة هذه الدول للمطالبة بإقرار مبدأ التعويضات، يكون نصيبه التجاهل، وربما محاربته، مثلما حدث مع الرئيس الليبى الراحل معمر القذافي. كما تعد الخطوة الهولندية سابقة يمكن الاحتذاء بها فى حالات مماثلة ارتكبت فيها دول جرائم فى مناطق أخرى من العالم، مثل ما فعلته الولاياتالمتحدة فى فيتنام والعراق وأفغانستان، والذى لا يتوقف حتى يومنا هذا، ولا ينتج عنه سوى «اعتذار» لا قيمة له فى أفضل الأحوال، كما هو الحال فى قصف مستشفى قندوز الأفغانى فى غارة أمريكية. كما ينطبق الأمر نفسه على قضايا أخرى حتى وإن كانت ظروفها مختلفة، مثل قضية مذابح الأرمن التى ارتكبتها القوات التركية، ومثل قضية «نساء المتعة» التى تطالب فيها كوريا الجنوبية حتى يومنا هذا بتعويضات من الجانب الياباني، وغير ذلك. فهل تكون الحكومة الهولندية قد ألقت حجرا فى الماء الراكد؟ وهل تكون خطوة مارك روته مجرد بداية لسلسلة اعترافات ذاتية ومبادرات تعويض تقوم بها القوى الاستعمارية السابقة، والقوى المتجبرة الحالية، لتزيل بقاع الماضى السوداء من على ثوبها، تنفيذا للمبدأ الذى يقول إن جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم، ولا يجب أن تسقط؟ حتى وإن كان ذلك كله تحت شعار : «أن تأتى متأخرا .. أفضل من لا شيء»؟! .. أم أن «الوقاحة» ستكون سيدة الموقف؟!