«غير متوقعة».. هكذا وصف الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب ملامح السياسة الخارجية لإدارته القادمة. وعلى الرغم من أن ترامب خلال الأسابيع القليلة التى تلت إعلان فوزه، قام ببعض الخطوات والاتصالات، التى أثارت حالة من الجدل، فإنه حاول فيها رأب الصدع سريعا تحديدا تجاه الصين. وعلى الرغم من أن اسم وزير الخارجية فى الإدارة الجديدة ما زال هو الشغل الشاغل لترامب خصوصا أن اختياراته ما زالت محل دراسة، فإن هناك عددا من المرشحين من بينهم حاكم ماساتشوستس السابق ميت رومنى والجنرال المتقاعد ديفيد بيتريوس، لكن كبار مستشاريه فى حالة خلاف حول الرجلين، مع وجود أسماء أخرى مرشحة مثل الجمهورى جون هانتسمان حاكم يوتا السابق، الذى شغل منصب مبعوث الرئيس الأمريكى باراك أوباما إلى الصين. ومن المنتظر أن يعلن الرئيس المنتخب المرشح للمنصب خلال الأيام القليلة المقبلة، إلا أنه يدافع عن ترشيحه لرومنى الذى يمكن أن يكون رأس الدبلوماسية الأمريكية. ترامب أكد مرارا أن سياسته الخارجية ستركز على فكرة «أمريكا أولا»، منتقدا فكرة أن العولمة باعتبارها «نغمة زائفة»، وهو ما يتناقض مع رؤية الرئيس باراك أوباما. ترامب تعهد بإنهاء التدخل الأمريكى للإطاحة بالأنظمة فى دول أخرى، وذلك فى إشارة إلى أن إدارته سوف تنتهج استراتيجية عدم التدخل فى الصراعات الخارجية، كما وعد بزيادة الإنفاق العسكرى ووضع سياسة خارجية تركز بشكل أساسى على تدمير تنظيم داعش الإرهابي، وأنه بدلا من الاستثمار فى الحروب، فسوف يتم إنفاق الأموال على تطوير البنى التحتية فى الولاياتالمتحدة. ومن بين ملامح السياسة الخارجية لترامب اختياره للجنرال جيمس ماتيس كوزير للدفاع، والملقب ب«الكلب المجنون»، وهو لقب يفخر به جنود المارينز الذين أطلقوه عليه خلال حرب العراق فى 2004 بسبب قوته، وهو معروف أيضا بانتقاده للسياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط خصوصا خلال ولايتى أوباما، بالإضافة إلى رفضه دعم واشنطن للإسلام السياسى تحديدا بعد الثورات العربية. وفى غضون أسبوع واحد، استفز ترامب الصين بتلقى مكالمة منتساى إينج وين رئيسة إدارة جزيرة تايوان غير المعترف بها دوليا، والتى تعتبرها بكين جزءا من أراضيها، ليخرج بعدها ويؤكد أنهما ناقشا العلاقات الوثيقة فى مجالات التجارة والسياسة والأمن، كما واصل هجومه على الصين بسبب سياستها الاقتصادية ونشاطها العسكرى فى بحر الصين الجنوبي، وهو ما دفع الخارجية الصينية إلى الدعوة لتوخى الحرص فى التعامل مع تايبيه لتجنب أى اضطراب غير ضرورى للعلاقات الثنائية مع أمريكا. وبرر نيوت جنجريتش مستشار ترامب ورئيس مجلس النواب السابق اتصال الرئيس بتايوان بأنه «لا يجب أن تملى بكين على رئيس الولاياتالمتحدة من يتحدث إليه»، نحن انتخبناه حتى لا يستمع إلى وزارة الخارجية الحالية». إلا أن الرئيس المنتخب أعاد حساباته، والتقى مع هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى الأسبق الذى يعمل حاليا كوسيط بين ترامب ونظيره الصينى شى جين بينج، كما رشح حاكم آيوا تيرى براندستاد ليصبح السفير الأمريكى فى بكين حيث أنه طور علاقات اقتصادية متميزة مع بكين. ترامب اتخذ خطوات عكس أوباما تماما، حيث امتدح حرب الرئيس الفلبينى رودريجو دوتيرتى ضد تجارة المخدرات، فى الوقت الذى اشتهر به دوتيرتى بتوجيه ألفاظ نابية إلى أوباما بسبب انتقاده لهذه الحملة، كما وعد بزيارة باكستان خلال اتصال مع نواز شريف رئيس الوزراء الباكستاني، وهو ما لم يقم به أوباما خلال 8 سنوات فى البيت الأبيض. كما هدد الحكومة الكوبية بإنهاء التقارب معها الذى بدأ منذ أشهر قليلة، فى حالة عدم التوصل لاتفاق أفضل. وخلال عهد أوباما، ظهرت بوادر «حرب باردة ثانية» بين واشنطن وموسكو، بل تهديدات بنشوب حرب عالمية ثالثة بين الغرب وروسيا، إلا أن ترامب شدد على ضرورة رأب الصدع مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين. هكذا يمكن القول إن ترامب تخلى عن الأعراف الدبلوماسية التقليدية للسياسة الخارجية الأمريكية. بعض الخبراء يرون أن استراتيجية ترامب تحاكى سياسة «الرجل المجنون» التى اتبعها الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون وهنرى كيسنجر، حيث تدرج الأخير من منصب مستشار الأمن القومى إلى وزير خارجية، ومارس الاثنان سياسة الغموض بجعل قادة العالم فى حالة تخمين حول نوايا واشنطن. كيسنجر كان يمارس «النظرية» فى سياق العملية التفاوضية خلال حرب فيتنام، حيث كان يؤكد خلال محادثاته مع دوك تو عضو المكتب السياسى فى الحزب الشيوعى الحاكم أن «نيكسون مجنون، ولولا أننى أقوم بتهدئته من حين لآخر لأمر بتسوية فيتنام كلها بالأرض»! . كما استخدمها ضد الاتحاد السوفييتي، حيث هددت إدارة نيكسون فى أكتوبر 1969 بالقول إن الرجل المجنون انطلق بعد أن أصدر أوامر للجيش الأمريكى بالاستعداد لشن حرب عالمية شاملة. واستمد نيكسون هذه الممارسة العملية من تعامل الرئيس الأسبق دوايت إيزنهاور خلال الحرب الكورية. والنظرية تعود أساسا إلى ميكافيللى الذى رأى أنه «من الحكمة التظاهر بالجنون أحيانا»! مايك بينس نائب الرئيس الأمريكى أكد أن قادة العالم يجدون أن صراحة ترامب تغير من «سياسة التردد» التى اتبعتها إدارة أوباما، لكن هناك تحذيرات أيضا من القرارات التى يتخذها الرؤساء الأمريكيون خلال الفترة الانتقالية حتى يوم التنصيب فى 20 يناير، والتاريخ الأمريكى شاهد على أخطاء هذه الفترة، وفى مقدمتها غزو خليج الخنازير فى عهد جون كينيدي. الأسابيع القليلة القادمة ستكشف ملامح أخرى من سياسات ترامب مع توالى اختياره لأعضاء فريقه خصوصا وزير الخارجية، وهل سيسير ترامب على خطى نيكسون أو سيكون هناك مسار آخر، فى ظل التحديات التى يواجهها العالم مع استمرار الصراع السورى وحالة الفوضى فى الشرق الأوسط، ومع قيام إدارة سلفه بتوتير العلاقات مع الحلفاء فى المنطقة.