أقف الآن أمام قبرك داخل ساحة المدافن الواسعة فى قريتنا الصغيرة.. اليوم تمر سنوات طويلة على موتك ومازلت أتذكر أنا هذا اليوم الذى لم يبرح ذاكرتى حتى بعد مرور كل تلك السنين.. كنتِ قبلها فى محنة مرضك الأخير والذى طال وامتد لشهور عديدة وأنتِ تتنقلين بين عيادات الأطباء والمستشفيات بلا جدوى، بعدها أعادوك إلى دارك لتمضى بقية أيامك ممددة فوق المرتبة القطن المفرودة على الأرض خارج حجرتك على سطح البيت بحسب رغبتك الملحة.. طلبت عدم إدخالك إلى الحجرة مرة أخرى.. كنت تتمنين الموت فى الهواء الطلق.. وظل إلى جوارك أصغر أخوالى (عمر).. هو الذى حدثنى تليفونيا كى أحضر إليك بسرعة كما طلبت لأن حالتك تتدهور بحسب ما قرر الطبيب فى الوحدة الصحية بالقرية.. تعجبت من هذه الرغبة الأخيرة لك وأنا لم أرك منذ شهور بعد أن تزوجت وأصبحت زياراتى قليلة للبلدة.. أنا أكبر أحفادك وأول من ناداك جدتى.. أعرف مدى حبك الشديد لى ولأمى رحمها الله.. كانت دائمة السؤال عنك والعطف عليك أكثر من بقية إخوانها وأخواتها، وكثيرا ما كنت تأتى بك لتمكثى معنا شهورا طويلة خصوصا بعد وفاة جدى وبقائك وحيدة.. الخالات تزوجن بعيدا والأخوال ذهبوا للعمل والهجرة خارج الوطن. ما أجملها من أيام تلك التى كانت تعيشين فيها معنا وأنتِ المحبة للضحك وتقولين دوما: الله يلعن النكد وسنينه.. كم أسعدتنا بتقليدك لكل من يأتى لزيارتنا فى وجودك، بطريقتك الكوميدية كما لو كنت ممثلة محترفة وأنت التى لم تشاهدى سينما أو تليفزيونا طوال حياتها.. أتذكر يوم أن اصطحبناك معنا لدخول السينما القريبة من بيتنا وكانت تعرض فيلما اسمه «قطار الليل».. بمجرد أن شاهدت القطار قادم ناحيتنا على الشاشة حتى قمت صارخة وسط الصالة خوفا من أن يدهسك، بين ضحكات كل من كان موجودا ساعتها وأعدناك لمكانك بصعوبة بالغة. كانت أياما من أمتع أيامنا معك، وكنا نتمنى أن تطول للأبد، إلا أنك كنت تتذرعين بمواعيد حصاد المزروعات فى القراريط القليلة التى كنت تمتلكينها وتتعيشين من ناتجها. حينما وصلت ليلتها إلى الدار كان الظلام يحط على كل الأشياء حولى والسكون يسطو على البيوت الطينية ويصنع هالة سوداء تغلف الأجواء حولى.. صعد بى خالى إليك وأنا أسمع أنينك الخافت معبرا عن ألمك الدفين وتطلبين ماء لتشربى.. أسرعت إلى القلة الفخار بجوارك وقربتها من شفتيك الجافتين بعد أن رفعت لك رأسك الصغير قليلا.. وشربتِ وكأنك لم تشربى منذ زمن.. ويبدو أنك شممت رائحتى فلفتت انتباهك وصرخت باسمى بصوت عالٍ.. لم يصدق أحد أن يصدر منك بعد كل هذا الضعف الذى ألم بك.. احتضنتنى فى صدرك الضعيف بيديك المعرورقتين وأنفاسك القلقة تصدم أذنى وأسمع دقات قلبك الواهنة المضطربة تطرق صدرى وسط دموعك التى انهمرت وكأنك ادخرتها لتلك اللحظة الحارقة.. ما كان أحن صدرك على شعرت ساعتها وكأن أمى هى من تضمنى إليها وتخيلتها تراقبنا من بعيد وتبتسم فى رضا. أعدتك ببطء إلى موضع رقدتك وطلبتِ منى أن أسكب الماء فى داخل ملابسك وكررت طلبك.. ترددت فأشار علىّ خالى بالموافقة.. فعلت وأنا أشفق عليك.. لكنك بدأت تدعين لى بالصحة والعافية وسعة الرزق ثم سألتنى فى صوت خافت: هل أنجبت؟ ولما أجبتك بالنفى وأننا نتلمس العون من الله بمساعدة الأطباء كررت دعاءك لى بالذرية الصالحة ومددت يدكِ أسفل المخدة تحت رأسك.. ناولتنى كيسا صغيرا من القماش قائلة: ابنتك القادمة سترتدى هذا العقد من الزبرجد الحر.. هو ميراثى من جدك الكبير.. ونظرتِ إلى نظرتك الأخيرة.. كم كانت عيونك ساعتها فى أحلى صورها، وبسمتك الهادئة ترتسم على شفتيك فى رضا وتبتل.. مال رأسك فى اطمئنان على كتفى وهدأت أنفاسك إلى الأبد.. الآن وبعد سنوات مرت على غيابك تضع ابنتى الوحيدة العقد الزبرجد وسط أشيائها الخاصة، هدية منك لن تنساها من الجدة التى لم تر ملامحها أبدا.