ربما تقف واقعية جابرييل جارسيا ماركيز السحرية عاجزة عن الوصول بسقف التخييل الفنتازى إلى ما وصل إليه خيالنا/ واقعنا المصرى البليد الذى يسعى الآن إلى محاكمة نجيب محفوظ فى قبره. وربما أيضا سنشعر بكثير من الشفقة على نص خوان رولفو أحد الآباء المركزيين للواقعية السحرية بروايته الرائدة "بيدرو بارامو"، حين يقف مندهشا أمام نبش مختلف لقبور الموتى الأحياء الذين صنعوا ذاكرتنا الجمعية وتصوراتنا عن العالم والأشياء. وسيقف التاريخ فى مناخات الخسة تلك بالمرصاد أمام عجز الثقافة الرسمية عن الدفاع عن روح مصر الحقيقية الممثلة فى نجيب محفوظ الذى اغتالته يد جديدة عبر تصريحات البعض ممن يفترض أنهم يمثلون الضمير الشعبي، فى قتل معنوى جديد بعد مصادرة روايته الفاتنة أولاد حارتنا، وبعد محاولة الاغتيال المادية التى أصابت يده التى كان يخط بها نصوصه البديعة فى العام 1994. ولم تصنع وزارة الثقافة ولا أى من هيئاتها المختلفة ولو بيانا واحدا تدين فيه ما حدث للكاتب الفذ من اعتداء معنوى يسعى لمحاكمته من جديد، وكأن حركة التاريخ لا تندفع صوب الأمام، وكأن أجواء الإرهاب التسعينى تعود من جديد لكنها الآن ترتكن على سلطة محافظة، لا تدرك أن جوهر الروح المصرية يكمن فى طه حسين ونجيب ومحفوظ ويحيى حقى ويوسف إدريس وغيرهم، وأن محاولات التشويه المستمرة، لن تنال من المنجز الجمالى لكتابنا الأفذاذ، لكنها فقط ستقوض الروح المصرية، وستكشف حجم العوار الذى أصاب القوة الناعمة، وتراجعها على هذا النحو المخزى الذى لا تخطئه عين. لماذا يكرهون نجيب محفوظ؟ هذا السؤال الذى يلوح لى دائما فى كل موسم من مواسم الهجوم على كاتبنا المجيد، إنه السؤال الذى يحيل إلى الجواب، فلا شك أن سياقا سياسيا وثقافيا يتسم بالقسوة والعتامة يهيمن على فضائنا العربى منذ قرون، يصير معه المختلف هدفا للقنص، وتصير الموهبة غاية للتجريم، ويصبح التفكير محرما، ويشهر وكلاء الحقيقة المطلقة سلاح التكفير فى وجه الكل، وهذا عين ما حدث مع نجيب محفوظ أثناء نشر روايته " أولاد حارتنا" مسلسلة فى جريدة الأهرام عام 1959، غير أن الكاتب الراحل الكبير محمد حسنين هيكل – رئيس التحرير آنذاك- أصر على نشرها كاملة، وظلت الفتاوى التى تكفر محفوظ مستمرة، وكانت تتجدد حال الحديث عن أى عمل أدبى يتسم بالتمرد والمغامرة الجمالية، حتى أدلى الدكتور عمر عبد الرحمن بحديث الى إحدى الصحف العربية فى العام 1989، تضمن فتوى بأن نجيب محفوط مرتد عن الإسلام لقيامه بكتابة رواية أولاد حارتنا، ولم تمكث الإشارة بالجهاد المزعوم من قبل الشيخ أكثر من خمس سنوات، حتى تلقفها شاب من أعضاء الجماعة الإسلامية فى أكتوبر 1994، وطعن نجيب محفوظ بالفعل محاولا قتله، وحينما سئل هل قرأت الرواية؟ أجاب بثقة مفرطة: لقد قالوا لى إنه مرتد!. نحن إذن أمام سياق معرفى مسكون بالماضي، تسيطر عليه ثقافة التسليم والاستكانة، لا يعرف السؤال، ويكره المساءلة، يخاصم الراهن، ويقدس ما كان، ويعزز هذا الحضور الماضوى انعدام المعرفة بحركة النص الأدبى وآلياته وقوانينه الداخلية، التى لا يمكن التعامل معها بوصفها قوانين سرمدية، مثلما لا يمكن التعامل مع النصوص الإبداعية بوصفها نصوصا أحادية المعنى، وأنها تحتمل دلالة واحدة فحسب، حيث يجب الوعى بأن الكلمة الأخيرة فى الأدب هى كلمة لم ينطق بها أحد بعد، ومن ثم تبقى النصوص الإبداعية فى حال من القراءات المتجددة، التى تكتنز معها جملة من المعارف والخبرات الحياتية والفكرية والجمالية، وهذا كله ما يفوت القراءات المتربصة بعالم نجيب محفوظ الثرى والمكتنز لطبقات من المعنى والدلالة، كما أن الكثيرين من متطفلى الأدب لم يزالوا يتعاملون مع النص الإبداعى من منظور عقائدي، فيجعلون من الثابت أداة للحكم على المتحول، وتصبح قراءاتهم للنصوص الأدبية مبتورة وعاجزة، أما الأدهى فإنها تصبح وقودا يستخدمه المتطرفون لإشعال الحرائق، والإجهاز المادى والمعنوى على رموزنا الفكرية والإبداعية، على غرار ما حدث مع نجيب محفوظ وغيره من مبدعينا. يفرض هذا كله على النقد الأدبى دورا طليعيا بامتياز، يجب أن ننهض به جميعا، لمواجهة تلك القراءات المتربصة والتكفيرية التى تسعى صوب الإدانة والمحو، وتقدمنا جميعا مفكرين وكتابا قربانا للقتل باسم المقدس فى غيبة حقيقية من قيم التقدم والاستنارة وفى ظل أبنية معرفية مهترئة وسلطة ثقافية خارج الزمن والتاريخ. ربما يكرهون نجيب محفوظ أيضا لأنه يخلخل المستقر، ويدفع بقارئه إلى الوقوف على حافة السؤال، وعتبة الفعل، ويبدو نصه مشغولا بفكرة التغير التى تعد تيمة جوهرية فى نصوصه الإبداعية، مثلما يظل وعيه نافذا فى قراءة التحولات السياسية والاجتماعية العاصفة التى مررنا بها، كما تظل تأملاته الدالة فى فكرة الزمن بأبعادها الوجودية والمادية والفلسفية علامة على كتابة تسعى صوب اكتشاف المجهول. يكشف نجيب محفوظ الأقنعة، ويعرى الوجوه التى تحيا على الحلم ونقيضه، فيقدم ذلك المثقف الانتهازى الذى خان طبقته الاجتماعية، ويطرحه بوصفه ممثلا لذلك الهارب الطبقى الذى يتخلى عن ناسه منذ البداية على الرغم من كل الرطان الكاذب الذى يقوله، فنصبح أمام سرحان البحيرى فى " ميرامار"، و" رءوف علوان" فى " اللص والكلاب". إن استهداف نجيب محفوظ بتواتر مدهش، يتكرر كل عام تقريبا، يعنى أننا أمام أمة فى خطر، مجتمعات غلب فيها الواقع الخيال وانتصر عليه وطرحه أرضا، والتواطؤ بالصمت يبدو لسان الحال لثقافة قديمة وبائسة، غير أنه ومن المؤكد أن مسئولا كولومبيا أو مكسيكيا لن يخرج يوما داعيا إلى محاكمة ماركيز أو خوان رولفو بسبب أعماله الإبداعية، ليتنا نعلم. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;