جاء قرار تحرير سعر الصرف ليكشف عن حجم الأزمة التي تعانيها مهنة الصحافة الآن، والمخاطر التي تواجهها المؤسسات الصحفية (القومية والخاصة والحزبية) بعد مضاعفة أسعار الورق ومستلزمات الطباعة، التي يتم استيراد معظمها من الخارج، مما يجعل مستقبل المهنة محفوفا بالمخاطر، ويهدد باندثارها إذا لم يكن هناك تحرك واع ومدروس من كل الجهات. ربما يتحدث البعض نتيجة قلة الخبرة أحيانا، والجهل أحيانا أخري، عن عدم أهمية الصحف، وعن انخفاض تأثيرها، رغم أن الصحف في العالم كله لا يزال لها دورها القوي والمؤثر، ومن باب أولي فإن هذه الأهمية تزداد في مصر نتيجة ظروفها الثقافية والاجتماعية التي ترتفع بها نسبة الأمية لتصل إلي النصف تقريبا (نحو 50%)، وإلي انتشار بعض العادات الاجتماعية السلبية، وانتشار التطرف، وانعدام الوعي، مما يستدعي وجود صحافة يومية قوية قادرة علي تصحيح المفاهيم، وتنمية الوعي، ونشر الثقافة العامة، بالإضافة إلي دورها الطبيعي في نشر ومتابعة الأخبار وتحليلها، ونقل معاناة المواطنين ومشكلاتهم إلي الجهات المسئولة، ومتابعة حركة المال والأعمال، وأنشطة السوق، والانتقال إلي قلب الأحداث والبؤر الساخنة، وطرح كل القضايا والتحقيقات والآراء، بما يعكس حالة المجتمع الحقيقية بعيدا عن الشائعات والتخاريف والشطط الذي تضج به وسائل التواصل الاجتماعي. الخلط بين التقدم العلمي وانهيار الصحافة فيه الكثير من الاستخفاف والمغالاة للتنصل من المسئولية عن الأزمة الراهنة، فمصر لا تزال سوقا واعدة لانتشار الصحف، مثلها مثل الهند والدول النامية الأخري، بل إن احتياج مصر بظروفها الحالية أقوي من احتياجات هذه الدول الأخري، لوجود صحافة قوية ناهضة ومسئولة، تسهم في بناء الدولة العصرية المدنية الحديثة التي نحلم بها. في الهند مثلا يرتفع توزيع الصحف اليومية، رغم أن الهند أكثر تقدما من مصر في كل المجالات بما فيها المجالات التكنولوجية حيث توزع الصحف هناك ما يقرب من 310 ملايين نسخة. في تقرير رائع أعده الزميل محمد كساب ونشرته «المصري اليوم» علي صفحة كاملة يوم 21 أغسطس الماضي أوضح ارتفاع حجم التوزيع اليومي للصحافة الهندية أخيرا بسبب انتشار ثقافة قوية مرتبطة بقراءة الصحف، وارتفاع مستوي الدخل، ونمو سوق الإعلانات، وقد فسر مواطن هندي حرصه علي الاشتراك في إحدي الصحف منذ 15 عاما بأنه يشتري الصحيفة من أجل مستقبل أفضل لأبنائه حتي يكونوا أكثر ثقافة وأكثر إلماما بكل ما يحدث حولهم. في اليابان التي يبلغ عدد سكانها 127 مليون نسمة، وهي بلد المنشأ لكل التكنولوجيا الحديثة، فإنه طبقا للدراسة التي أعدتها «هاياشي كاوري» أستاذة دراسة المعلومات في جامعة طوكيو، ونشرتها أخيرا، فإن الصحف في اليابان ليست مجرد وسيلة للحصول علي المعلومات، لكنها جزء لا يتجزأ من أسلوب حياتهم، لذلك فإن الصحف اليابانية هي الأكثر توزيعا في العالم بما يقرب من 70 مليون نسخة يوميا، ويكفي أن توزيع الطبعة الصباحية لجريدة «يوميوري» يصل إلي 10 ملايين نسخة، تليها طبعة «أساهي» الصباحية 8 ملايين نسخة، وتبلغ نسبة الرجال الذين يقرأون الصحف نحو 85% في مقابل 75% من النساء. وبين هذا وذاك تأتي بريطانيا التي يبلغ عدد سكانها نحو 64 مليون نسمة، فالصحافة هناك لا تزال قوية ومؤثرة، وبغض النظر عن تجربة «الإندبندنت» التي تعرضت للإغلاق بعد تراجع توزيعها، حيث تبلغ نسبة قراء الصحف نحو 20% تقريبا من عدد السكان. حالة الإندبندنت تشير إلي وجود أزمة في صحف اليسار في العالم، وفي بريطانيا خصوصا، إلا أنه علي الجانب المقابل فإن صحف اليمين لاتزال قوية ومزدهرة كما أشارت الزميلة منال لطفي في تقريرها الذي نشرته جريدة «الأهرام»، فهناك جرائد مليونية وهي ذي «صن» (1.978 مليون نسخة يوميا)، والديلي ميل (1.688 مليون نسخة يوميا)، بالإضافة إلي الديلي ميرور (ما يقرب من المليون نسخة يوميا)، أي أن 3 جرائد فقط في بريطانيا توزع ما يقرب من 3 أضعاف الصحف المصرية مجتمعة. كل هذه النماذج تؤكد بوضوح أن الربط بين التقدم العلمي وانتشار «النت» وانهيار الصحافة في مصر فيه الكثير من الاستسهال في إلقاء التهم علي التقدم العلمي وهو منه براء، فالأولي بالتقدم العلمي اليابانوبريطانياوالهند، وهي دول لاتزال فيها الصحف توزع الملايين من النسخ، وتتراوح نسبة قراءة الصحف في هذه الدول بين 20% (بريطانيا) و 60% (اليابان)، وبينهما الهند 30% تقريبا، في حين أن توزيع الصحف في مصر لا يزيد بحال من الأحوال علي 1.5% ، وهي نسبة متدنية وبالغة السوء، وتشير إلي وجود خطر حقيقي ليس علي مستوي مهنة الصحافة فقط، بل علي مستوي مستقبل الشعب المصري كله، الذي يعاني أمراض الأمية الأبجدية والثقافة، وانتشار الجهل والتخلف، ويهدد بوجود فراغ ثقافي هائل تشغله مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات بكل ما فيها من سموم وتفاهة، وعدم قدرة علي المتابعة والتدقيق، مما يهدد بخلق أجيال أشد جهلا وتخلفا في ظل منظومة تعليمية آيلة للسقوط، وانشغال أولياء الأمور بضغوطهم المعيشية لتقع الأجيال الجديدة فريسة للشائعات والخزعبلات، وإدمان العالم الافتراضي بكل ما فيه من عيوب وسموم قاتلة. القضية طويلة ومعقدة وتحتاج إلي جهد هائل ومنظم للخروج من الأزمة الحالية، تستلزم ضرورة الإسراع بإصدار التشريعيات الصحفية والإعلامية، وإعادة هيكلة المؤسسات المنظمة للصحافة والإعلام طبقا لمواد الدستور 211 و212 و213، بما يضمن أن تقوم تلك الهيئات بدورها في البحث عن حلول للأزمة الراهنة في أسرع وقت ممكن، بعيدا عن الحلول «المتعجلة» المتمثلة في رفع أسعار الصحف، لأن هذا يعني ببساطة مزيدا من التراجع نتيجة الأزمة الاقتصادية الحالية التي يعانيها المواطن المصري، وانحسار سوق الإعلانات. لابد من جهد منظم تشترك فيه كل المؤسسات الصحفية (القومية والخاصة والحزبية) من خلال المجلس الأعلي للإعلام، وأن تكون هناك رؤية خاصة ومشتركة ومتكاملة للصحافة القومية، من خلال الهيئة الوطنية للصحافة، سواء فيما يتعلق بالتطوير المهني لكل مؤسسة، أو المشروعات المشتركة التي تخدم العمل الصحفي، أو الرقابة علي الأداء ومحاسبة المقصرين، وفي كل الأحوال لا يمكن إغفال دور الدولة في حل المشكلات، وإزالة العقبات التي تعترض ازدهار الصحافة، حفاظا علي الأمن القومي المصري، ومنعا لتغييب العقول، فحل مشكلات البطون الجائعة ضرورة، ولكن العقول الخاوية مشكلة كبيرة وخطيرة لا تقل أهمية عن البطون الجائعة. لمزيد من مقالات عبدالمحسن سلامة