أََبَكت تلكمُ الحمامة أم غنّت على فرع غصنها الميّادِ! أبناتِ الهديل أسْعِدنَ، أو عِدنَ قليل العزاء بالإسعادِ إيهِ! لله دَرّكُنّ، فأنتنّ اللواتى تُحسِنّ حفظ الودادِ ما نسيتُنّ هالكاً، فى الأوان الخالِ أودَى من قبل هُلك إيادِ بيد أنِّى لا أرتضى ما فعلتُنّ وأطواقكنّ فى الأجيادِ فتسلّبنَ واستعرنَ جميعاً من قميص الدجى ثياب حدادِ ثم غرّدنَ فى المآتم واندبن بشجوٍ مع الغوانى الخِرادِ «أَبَكَت تلكمُ الحمامة أم غَنَّت؟».. ذلك التساؤل التراثىّ المتجذر فى الشعر العربىّ منذ عصوره الأولى ما قبل الإسلام؛ ذلك الشجن الذى يبعثه هديل الحمام فى نفس الإنسان العربى منذ بداوته الأولى، يتناوله هنا بعُمق فلسفىّ أبو العلاء المعرَّى، شاعر معرة النعمان قُرب حلب ببر الشام، الذى كان، بمنظور القرن العاشر/ الحادى الميلادى (الرابع/ الخامس الهجرىّ)، الأخير زمانه الذى أتى بما لم تستطعه الأوائل- حسبما يصف هو نفسه فى إحدى قصائده- حين أسس الرؤية الفلسفية فى رهافة الشعر, وكان حقاً آخر سلسال الشعراء الكبار فى التراث الشعرى الكلاسيكىّ الذى بدأ بامرئ القيس وانتهى بالمتنبى والمعرى الذى كان من رواة شعر المتنبى. ودرته الشعرية الكُبرى هى الدالية التى كتبها فى رثاء أحد الفقهاء الحنفيين, لكن رؤيته الفلسفية التى بلغت فى هذه القصيدة قمة من قمم الصياغة الشعرية فى تراثنا الشعرى كله، هذه الصياغة وتلك الرؤية تجاوزت بمراحل الموضوع المباشر للقصيدة، لتكون أبياتها الأولى والأخيرة، أهم من متنها أو قلبها الذى رثى فيه المعرى ذلك الفقيه. إنها القصيدة التى يبدأها أبو العلاء ببيته الشهير: غيرُ مُجد فى ملتى واعتقادى نوح باكٍ ولا ترنم شادِ إلى أن يصل إلى البيت الذى افتتحنا به حديثنا هذا، والسطور التى تلته، وفيها يخاطب الحمام، فيتساءل أولاً: «أبَكت تلكمُ الحمامة أم غنّت..؟» لن أتوقف هنا عند العمق الفلسفىّ أو البُعد التراثى لهذا التساؤل، ولكن الذى استوقفنى, فى قراءتى العاشرة أو المائة أو الألف لهذه القصيدة, هو بُعد صوتى بحت لم يستوقفنى من قبل: «أَبَكَت تلكُم»... للمرة الأولى، بعد كل هذه السنين، منذ قراءتى المبكرة للقصيدة، وأنا طالب بالمرحلة الثانوية ، ألاحظ أن هذه الحروف الثمانية فى تركيبها الصوتىّ (أَبكَت تِلكمُ..) تشبه صوت الحمام واليمام الذى يحط على قاعدة الشباك حيث أنام وأصحو وأسمعه من عشرات السنين. وليست هذه الحروف الثمانية الأولى فحسب، بل تواتر حرف الميم والنون فى السطر كله (أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها الميّادِ؟)، ثم فى الأبيات الستة التى يخاطب فيه المعرى الحمام أو «بنات الهديل» كما يسميه، حيث يستخدم نون النسوة باتساع وإبداع (مرتين على الأقل فى كل بيت)، ليصنع من هذه النون المشددة وتواترها (أى تكرارها) فى كل بيت نوعاً من المحاكاة الصوتية لهديل الحمام، وهى إحدى المحسنات البديعية المذكورة فى علم البلاغة الغربى تحت مُسمَّى (onomatopoeia) أى المحاكاة الصوتية للمعنى أو الموضوع، وإن تكن حَسَب علمى غير مذكورة، أو غير شائعة على الأقل، فى علم البديع العربى - إلا أنها موجودة فى الشعر العربى وفى كل شعر. هذه المحاكاة الصوتية، سواءً أن جاءت متعمدة أم عفوية من الشاعر، ليست أهم ظاهرة إبداعية فى قصيدته العظيمة؛ فمقدمة المرثية كلها التى تتأمل الموت فلسفياً بأبدع صياغة من نوعها فى تاريخ الشعر، هى من عيون البيان: خفف الوطء! ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجسادِ وقبيح بنا وإن قََدُمَ العهد هوانُ الآباءِ والأجدادِ سِر إن اسطعت فى الهواء رويداً/ لا اختيالاً على رفات العبادِ رُب لحدٍ قد صار لحداً مراراً/ ضاحك من تزاحم الأضدادِ حتى يصل إلى البيت الذى يشبه تنهيدة طويلة: تعب كلها الحياةُ فما أعجب إلا من راغب ازديادِ! أقول ليست محاكاة صوت اليمام والحمام فى تلك السطور، التى صَدَّرتُ بها هذا الحديث، أهم وأعظم ما فى القصيدة؛ إنما ركزت عليها لأن أوجه عظمة الدالية قُُتلت ذكراً، أما تلك المحاكاة الصوتية فهى لم تلفت نظرى من قبل فى نصف قرن أو أقل قليلاً من مطالعتى لهذه القصيدة، ولهذا فقد تكون هذه اللقطة جديدة ومجدية بالنسبة للقارئ، رغم أنه غير مُجد – فى ملتى واعتقادى - نوح باكٍ ولا ترنم شادِ! لمزيد من مقالات بهاء جاهين;