واحدة من أبرز المقولات الشهيرة تلك التى تقول إن الفن لغة عالمية لا تعرف الحدود، وإن الفنان كلما أغرق فى المحلية كان سهلا عليه بلوغ العالمية. ربما كانت ذلك هو الميزة الوحيدة تقريبا فى فيلم «American Pastoral» الذى يمكن أن يترجم بعدة أشكال بحسب المعانى المتعددة لكلمة «pastoral» التى تعنى القروى أو الساذج والبسيط كما تعنى أيضا الكهنوتي، وكلها معانى تناسب مضمون الفيلم المأخوذ عن رواية حملت نفس الاسم للكاتب فيليب روث عام 1997 فاز عنها بجائزة بوليتزر أرفع الجوائز الأدبية فى أمريكا. ................................................................ الفيلم يناقش مشكلتين أساسيتين يكاد يكون قد نقلهما حرفيا من الرواية الشهيرة، المشكلة الأولى وهى التى تمس مجتمعنا فى مصر بشكل واضح وتلامس معاناة عاشتها عشرات الأسر المصرية فى السنوات الخمس الماضية جراء المناخ السياسى المتفجر منذ ثورة 25 يناير، وما أعقبها من مسيرات ومظاهرات انجرف إليها آلاف الشباب فلقى بعضهم حتفه وعوقب آخرون بالسجن فيما فر جمع ثالث خارج البلاد، القاسم المشترك بين كل هؤلاء هو الأسى الذى تركوه عن غير قصد لأسرهم وذويهم. المشكلة الثانية هى العلاقة المحيرة بين الآباء والأبناء وأزمة فقدان التواصل بين الطرفين وما يمكن أن تؤدى إليه من كوارث تتمثل فى انحراف الأبناء المتمردين ومعاناتهم خاصة فى المجتمعات العصرية التى لا يعرف أفرادها الرحمة، وكذلك لوعة الآباء وهم يرون أحلامهم فى أبنائهم تتحول إلى أطلال دون أن يستطيعوا فعل شيء لتصحيح المسار. قصة الفيلم التى تجرى فى حقبتى الستينيات والسبعينيات تدور حول زوجين يمثلان النموذج المثالى للحياة السعيدة، فالزوج (سيمور ليفوف) الذى يجسد شخصيته إيوان ماكجريجور لاعب كرة قدم سابق وأبن رجل أعمال متوسط المستوي، والزوجة (داون دوير) التى تلعب دورها جنيفر كونللى ملكة جمال سابقة لولاية نيوجيرسي، ويملك الاثنان بيتا ريفيا كبيرا ومزرعة تمارس الزوجة من خلالها هوايتها فى تربية الأبقار. ينجب الزوجان طفلة (ميرديث) أقل جمالا من أمها تعانى من التأتأة، ومع استمرار المعاناة حتى بلوغ الفتاة (تلعب دورها داكوتا فانينج) سن المراهقة، يلجأ الأبوان لطبيبة تصارحهما بأن الأبنة لا تعانى من مشكلة مرضية ولكنها تلجأ للتأتأة كوسيلة لتفادى المقارنة الحتمية التى سيعقدها الناس بينها وبين أمها الأجمل. فى سن المراهقة يتحول تمرد الفتاة السلبى لتمرد إيجابى عبر موقف راديكالى متشدد من الغزو الأمريكى لفيتنام، وتبدأ فى مهاجمة أبويها لتخاذلهما فى الاعتراض على سياسات الحكومة الأمريكية التى تقتل الأطفال والنساء والأبرياء فى هانوي. هنا تكمن المعضلة الرئيسية للفيلم حيث تجتمع المشكلتان اللتان يناقشهما فى تلك اللحظات، فالفتاة تحول كراهيتها الصامتة واحساسها بالنقص إلى سلوك عدوانى غير مبرر تجاه أمها ومن ثم أبيها رغم أنهما ليسا من أنصار الحكومة الأمريكية ولا يؤيدان غزو فيتنام، لكنهما مثل ملايين البشر الآخرين لا يكرسون حياتهم للتعبير عن هذا الرفض باعتبار أن تدبير حياة الأسرة وإدارة عمل الأب أهم من وجهة نظرهما استنادا لأن تلك الأسرة مسئوليتهما الأولي. المشكلة الثانية أن الفتاة المتمردة لا تحاول حتى الإنصات لوالديها رغم محاولات الأب المتكررة للتواصل معها بالمناقشة والحوار، لكنها لا تستجيب كون أن لديها موقفا مبدئيا رافضا لموقف الأبوين وتعتبر أن كل ما يقولانه ضمن روتين ممارسة دوريهما كأب وأم فى مجتمع غير واع. تبدو هنا المشكلة فى انقطاع التواصل بين جيلين وهى مشكلة تعانى منها أغلب الأسر فى مصر والعديد من دول العالم الذى أصبح قرية صغيرة فى عصر المعلومات، ولم يعد الأبوان فيه أو حتى الأسرة بكاملها مصدرا للمعرفة لدى الأطفال والشباب. تتطور الأمور وتنخرط ميرديث مع جماعات يسارية مناهضة للحكومة، تحث على العنف ما يورطها فى تفجير مكتب البريد المحلى فى القرية التى تسكن فيها مع والديها ويلقى مسئول المكتب المحبوب من الجميع مصرعه تاركا خلفه أسرة حزينة ومعوّزة. وبعد أن تحولت إلى مطلوبة للشرطة تختفى الفتاة تاركة لأبويها المعاناة من لوعة فقدانها وكذلك تحمل مسئولية أفعالها الإجرامية أمام المجتمع المحلي. بعد محاولات عديدة يعثر عليها الوالد تعمل فى عيادة بيطرية متواضعة وتعيش حياة المشردين، وتعتنق مذهبا هندوسيا لا يؤمن بالاستحمام ولا قتل الحشرات، وعندما يحاول إقناعها بالعودة معه ترفض، رغم اعترافها بأنها منذ هروبها من المنزل انضمت لجماعات ثورية تناوب شبابها على اغتصابها عدة مرات. يتحمل الوالد بمفرده هم ابنته التى تعيش حياة غير لائقة بعد تورطها فى تفجيرين نتج عنهما 3 قتلي، لأن زوجته (أمها) قد أصيبت بأزمة نفسية لسنوات دخلت على إثرها مصحة للأمراض النفسية وخرجت منها وهى مصرة على نسيان ابنتها ولا تريد أن تسمع عنها شيئا. يكتشف الأب هروب ابنته مجددا من مسكن المشردين الذى وجدها فيه، لكنه يظل يداوم على الذهاب لنفس المكان والوقوف بالساعات وهو يحملق فى البيت المتواضع، بينما سنوات العمر تجرى به، حتى يرحل عن الدنيا. فى جنازته وبعد أن تنتهى مراسم التأبين يفاجأ الجميع بميرديث تنزل من سيارة أجرة وتذهب مباشرة دون أن تتحدث مع أحد حتى والدتها إلى التابوت الذى يرقد فيه جثمان والدها وينتهى الفيلم، فى رسالة ضمنية «على الأغلب» أن الشباب لا يستفيقون من حماقاتهم وتمردهم إلا بعد فوات الأوان. الفيلم كما ذكرت فى البداية يحمل قصة إنسانية مؤثرة تمس كثيرا من الأسر وتجسد معاناة ملايين الآباء، لكنه فنيا أقل من المتوسط وهو ما أجمعت عليه أغلب المقالات النقدية التى كتبت عنه سواء فى أمريكا أو خارجها. فالمخرج إيوان ماكجريجور وهو بطل الفيلم فى الوقت نفسه، لم ينجح فى أول أعماله كمخرج فى صياغة الأبعاد الإنسانية للقصة فى شكل سينمائي، فجاء العمل أقرب للأفلام التسجيلية أو الوثائقية منه لفيلم سينمائي، خاصة مع فشل السيناريست جون رومانو فى خلق صراعات أو قضايا جانبية تساعد المشاهد فى تحمل الملل الناتج عن استعراض التفاصيل الدقيقة لتطور علاقة الوالدين بابنتهما. لهذا خرج الفيلم مباشرا بشكل عكس محدودية أفق السيناريست والمخرج ليستحق التقديرات المتواضعة التى نالها على المواقع النقدية والتى لم تزد فى أفضل الأحوال عن 4.4 من 10. كذلك أخفق ماكجريجور الذى شارك نيكول كيدمان من قبل بطولة فيلم «الطاحونة الحمراء» فى تبرير الكثير من تفاصيل الفيلم، حيث لم يظهر أى سبب وجيه لكون الأب يهوديا والأم مسيحية متدينة سوى أن ذلك هو ما كتبه فيليب روث فى قصته الأصلية، وربما هو المبرر المنطقى الوحيد لبناء التسلسل الدرامى للفيلم بطريقة الفلاش باك باعتبار أن ذلك هو ما صيغت به القصة فى الرواية الحقيقية.