دخلت إلى باحة واسعة بين مبان حديثة على حافة الصحراء، يملكها الكفيل، ويخزن فيها نفايات وكراكيب وأشياء كثيرة لا لزوم لها، وينام فيها عماله الهنود، كنت أبحث عن رانفير، يشتغل معى فراشا فى إدارة المبيعات، وتركت له مفاتيحى وذهبت ألعب كرة قدم فى ملعب قريب. فى نهاية الباحة كوخ كبير من الصفيح والخشب له باب صاج مخلع، دخلت منه، وجدت العمال الهنود جالسين فى نهاية الكوخ يأكلون، وفى وسطه جلس شيخ كبير مغمض العينين فى ملابس صفراء تتدلى من رقبته مجموعة من السِبحْ الملونة، ذقنه طليقة بلا تهذيب وشعره طويل هاش مثل كومة من الريش، وأمامه فحم متوهج فى قلب آنية فخار مستديرة .. فتح عينيه ورفع رأسه ناحيتى وأشار لى بالتقدم نحوه.. مد يده، مددت يدى لأسلم عليها، فأخذها وفردها، وحدق فيها، ثم قال بإنجليزية بلغة منطوقة باللهجة الهندية مكسرة : لماذا جئت؟، لا رزق لك هنا، مستقبلك هناك، سوف تمرض طويلا. ترك يدى وأغلق عينيه.. كنت قد وصلت الى السعودية قبل شهرين فقط، هروبا من حالة يأس أصابتني..كلما تذكرتها بعد كل هذه السنين الطويلة، أهز راسى وابتسم، والحالة نفسها لها بداية غريبة.. ذات يوم تنقلت بين مكاتب المجلة ساخرا: أنا أنتَ، وأنت هو، وهو نَحْنُ، ونحن هم. ضحك مجدى مهنا، وقال لي: خف تعوم، لو عبد العزيز خميس عرف.. نهارك أسود. عبد العزيز خميس، ربعة طويل القامة، يمشى بتؤدة بين أروقة المجلة فى الدور الخامس من المبنى المطل على شارع قصر العيني، يبدو متوجسا طول الوقت ولا يثق فى أحد، وكان مدير تحرير روزاليوسف و «صباح الخير» معا. وكتب عبد العزيز نثرا عاطفيا فى «صباح الخير» بدأه بشطرة عجيبة: أنا أنا، وأنت أنت، ونحن نحن، وهم هم.. فطست على نفسى من الضحك ولم أصدق ما قرأت، وبشقاوة طفولية بريئة رحت على مكاتب الزملاء أسأل: هل فيكم من يفهم مغزى هذا الشعر الحلمنتيشي؟ ردود ساخرة عابثة مستهزئة، وسط أكواب شاى وضحكات تصعد إلى عنان السماء. كنت وقتها أعمل فى قرية الأطفال «أس.أو أس»، وأنشر خبرا أو تحقيقا أو حوارا كل أسبوعين أو ثلاثة، وانتظر فرصة التعيين التى وعدنى بها مرسى الشافعي، ولم تأت الفرصة، مات مرسى الشافعي، ولم تكن لى علاقة مع مدير تحريره عبد العزيز خميس، كان يحضر اجتماعاتنا الأسبوعية أحيانا، ويقول كلاما لا أفهمه ويغادر.. نزلت إلى الدور الرابع سألت على الفنان هبة عنايت وجدته جالسا على مكتبه، سلمته حوارا مع وزير الري، وزير الرى كان المسئول عن التكامل المصرى السوداني، وكانت دار روز اليوسف تصدر مع دار الأيام السودانية «الوادي» مجلة شهرية مشتركة ، وكان هبة عنايت مدير تحريرها مع شريف طمبل. هبة عنايت، كائن خاص جدا، نصف إنسان ونصف ملاك، وجه بشوش دوما، ملامح منبسطة مريحة، صوت هادئ حنون، مقبل على الحياة وحب الناس، ألوانه مبهجة جدا فى لوحاته التى كانت تحتل أغلفة صباح الخير أو القصص التى يرسمها.. هز رأسه مرحبا، تناول الحوار، قرأ بضعة أسطر، وسألنى بضعة أسئلة شخصية، تحدثنا ربع الساعة قبل أن أغادره عائدا إلى عملى فى قرية الأطفال. ضاقت مساحة النشر فى روزاليوسف بحجج متنوعة، واظبت على النشر فى الوادى شهريا، وتمددت أواصر محبة دافئة مع هبة عنايت، بدأت حين اقترحت عليه الكتابة عن الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر بعد وفاته.. فسألنى متشككا: هل قرأت عن الوجودية؟، هل تعرف حياته؟، هل فعلا تستطيع أن تكتب عنه؟ أجبته مبتمسا: سيكون الموضوع على مكتبك بعد ثلاثة أيام. قرأ هبة ما كتبت، ونظر ناحيتى مبتهجا وقال: أريد موضوعا عن المخرج البريطانى هيتشكوك، هو مات صباح اليوم. وثق فى هبة عنايت، وكان مثل أخ كبير حنون: لا تغفل الكتابة لروزا من أجل التعيين. قلت له: عبد العزيز خميس لا يحبني. مرت شهور وعُين عبد العزيز خميس رئيسا لمجلس الإدارة ورئيسا لتحرير روزا.. وذات يوم أوقفنى موظف الاستعلامات: أستاذ.. أنا أسف جدا، عندى تعليمات بعدم دخولك. تسمرت مكاني، تسارعت دقات قلبى بجنون، لهثت فى مكاني، دخت قليلا، أحسست باقتراب الموت، دقائق ربما أكثر، ضاع الزمن أو تداخل فى بعضه، أو توقف أو انتهى فعلا، لا أدرى، جرجرت أقدامى خارجا إلى شارع قصر العيني، أين ذهب الناس؟، كيف اختفت المحلات والأتوبيسات والمباني؟، ما لزرقة السماء هذا اللون الكابى المكتوم؟ ما كل هذا الصمت الذى عّم الكون؟ قتيلا ينزف مشيت بالغريزة، لا أرى طريقا ولا دربا، من ينقذني؟، كيف أعود وأحيا من جديد؟، لا شمس تلمع، ولا شموع تضىء، نفق معتم طويل مهجور، ليت دموعاً تهطل، دموعى عزيزة لها كبرياء خبيث لا تسقط، فترفع عن كاهلى بعضا من وجعى الداخلي، عقلى مشوش مرتبك تائه. ثلاث ساعات.. ربما أربع ساعات مشيت، عبرت شوارع وميادين وكبارى وحوارى وأزقة، صعدت سلالم ونزلت، انحرفت يمينا ويسارا، وصلت إلى بيتى ليلا، ربما بعد صلاة العشاء، فتحت زوجتى الباب، صرخت في: ما بك ..وشك أسود؟ لم أرد.. دخلت..ألقيت نفسى على السرير.. نمت.. فتحت عينى بصعوبة، نظرت إلى السقف، قلت لنفسي: اللهم اجعله خيرا..كابوس فظيع. قالت زوجتي: ماذا حدث لك؟، كنت راجعاً فى حالة صعبة. يا الله..لم يكن كابوسا .. قلت: طردونى من روزاليوسف. تسمرت زوجتى فى مكانها، لم تعرف ما تقول وكيف تواسيني، هى تعلم كم أحب الكتابة..وكم أحب المكان. أربعة أيام رهيبة، لها ثقل أحجار الجرانيت على قلب عصفور وليد، رتبت أفكاري، عدت إلى مبنى روزاليوسف، اعتذر لى الموظف عن منعى من الدخول: قلت له: لو سمحت أنا طالع للأستاذ هبة عنايت. طلب الاستاذ هبة فى التليفون.. وقال: اتفضل.. تنفست الصعداء وصعدت.. سألنى الأستاذ هبة: لماذا طردك عبد العزيز خميس وعين كل زملائك تحت التمرين؟ رويت له حكاية الشعر الحلمنتيشى وأنا أنت وأنت هو.. صفق ضاحكا: ياخرب مطنك..عبد العزيز شالها فى نفسه وردها عليك.. سألته: ماذا أفعل؟ مد يده وضم يدي: اشتغل معى إلى أن يأذن الله لك بالعودة.. عام ونصف العام أكتب شهريا فى الوادي، وأعيد صياغات بعض الموضوعات دون أن يحن قلب عبد العزيز خميس.. وكان رئيس تحرير الوادى أيضا. و فى يوم قابلت عبد العزيز خميس بالمصادفة فى الأسانسير، قلت له: عندى موضوع عن الشباب المصرى ورؤيته للحياة والمستقبل..يصلح لروزا. رد باستعلاء: ابعته..اشوفه. ونشره فعلا بعد أسبوعين.. لكن لم ارتح لنظرته ولا طريقته فى الكلام معي.. انتظرته مرة ثانية على باب مكتبه، وسألته: هل هناك فرصة أمامى للتعيين؟ رد بغلظة: أنت محاسب ومرتبك كبير..وروز اليوسف زحمة. سافرت إلى السعودية.. قرفا وزهقا، إذا كنت محاسبا، فلماذا لا أجمع فلوسا.. حاولت التأقلم، وبلعت أيامى المرة كما لو كانت دواء ضروريا، خففها دوام النشر فى الوادي، وفى جرائد أخرى. الحياة مملة، والحر سخيف، والكلام تافه، والتكييف يجلب البرد صيفا وشتاء، فأصبت بنزلة شعبية حادة لازمتنى شهورا.