«ما تجلى لعيني الا نور الوجنات وعذوبة الحياء. أكرر السؤال فتغوص في الصمت أكثر. تجود بكل ثمين ولكنها من الكلام تجفل» قالها الشيخ عبد ربه التائه في «أصداء السيرة الذاتية» للعظيم نجيب محفوظ. وسئل الشيخ : «هل تحزن الحياة على أحد؟ فأجاب: نعم .. اذا كان من عشاقها المخلصين». ونقرأ بين صفحات هذا العمل الابداعي المميز (الصادرعام 1995).. « سألت الشيخ عبد ربه عما يقال عن حبه للنساء والطعام والشعر والمعرفة والغناء فأجاب جادا: هذا من فضل الملك الوهاب. فأشرت الى ذم الأولياء للدنيا، فقال: انهم يذمون ما ران عليها من فساد» ولا مفر لنا من أن نقف أمام «سألت الشيخ عبد ربه التائه: متى يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة» ................... وسواء كان نجيب محفوظ الطارح للسؤال أو الباحث عن الجواب فان حياته وأعماله الابداعية بلا أدني شك لم تتوقف أبدا عن امدادنا بما هو تجربة حياة وحكمة أجيال ومعرفة بشر وادراك انسان للحياة بطرقها العديدة وحواريها الملتوية وأزقاتها المظلمة. وكل هذا بالطبع لا يدركه الا من اقترب من عالمه الابداعي بل ودخل فيه واغترف من سطوره وتعلم منه ومن ابداعه حب الحياة واحتضان البشر. واقترابنا من عيد ميلاده ال 105 بحلول 11 ديسمبر الحالى ..وبالتأكيد تشبثنا به هذه الأيام خاصة عندما تتكرر على مسامعنا من حين لحين ترهات من سفاهة التفهاء وتفاهة السفهاء عن العظيم وما كتبه وما قاله وما أبدعه.. وأيضا ما ألهمنا به من قدرة ورغبة في معرفة قيمة ومعني مصرنا وحياتنا.. وأن نكون من «عشاقها المخلصين». وعفوا.. من يعشق لا يعتذر لأحد!! واحتفاؤنا بالانسان المبدع والمصري الجميل يأخذنا الى محطات عديدة أقف فيها لأتأمل عالم نجيب محفوظ. الذي كان عام أربعة وتسعين من القرن الماضي علامة فارقة في حياته (محاولة اغتياله يوم الجمعة 15 أكتوبر).. وكان عام 1988 تتويجا دوليا بحصوله على جائزة نوبل للأدب. محفوظ الذي ترك عالمنا و»خرج الى النهار» في أغسطس 2006. وترك معنا أمانة.. ارثا نفخر به يجب أن نفخر به .. «الثلاثية» و«أولاد حارتنا» و«الحرافيش» وغيرها. عندما تحدث نجيب محفوظ عن المرأة وأثرها في حياته في حوار مع محمد سلماوي قال: «الأم كان لها الدور الأكبر في حياتي، وكذلك الزوجة، والحب بمعناه الأفلاطوني كان له أثر كبير علي في سن المراهقة، ثم أتى بعد ذلك الحب الناضج، أما تقلبي في القاهرة من قمتها الى أسفلها ومن أسفلها إلى قمتها فقد جعلني أعرف وأخابر النساء من جميع الأشكال والألوان.« وقال أيضا: «.. وأنا صغير عرفت العوالم، وكانت هناك صالات الملاهي مثل صالة بديعة وغيرها، حيث عرفنا الراقصات والمغنيات ومشينا في شارع النساء من أوله الى آخره بخيره وشره» وفي كتاب «نجيب محفوظ» لرجاء النقاش نقرأ هذه السطور: «كانت أمي سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب ، ومع ذلك كنت أعتبرها مخزنا للثقافة الشعبية، كانت تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار، وفي الفترة التي عشناها في «الجمالية» كانت تصحبني معها في زياراتها اليومية، وعندما انتقلنا الي العباسية كانت تذهب بمفردها .. وفي كل المرات التي رافقتها فيها الى سيدنا الحسين كانت تطلب مني قراءة الفاتحة عندما ندخل المسجد وأن أقبل الضريح ، وكانت هذه الأشياء تبعث في نفسي معاني الرهبة والخشوع. والغريب أن والدتي كانت أيضا دائمة التردد على المتحف المصري وتحب قضاء أغلب الوقت في حجرة «المومياوات». ولا أعرف السبب، ولا أجد تفسيرا لذلك، فحبها للحسين والآثار الاسلامية كان ينبغي أن يجعلها تنفر من تماثيل الفراعنة.» ويضيف محفوظ «ثم أنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية ، خاصة دير«مار جرجس» وتأخذ المسألة على أنها نوع من البركة ، ومن كثرة ترددها على الدير نشأت صداقة بينها وبين الراهبات ، وكانوا يحبونها جدا. وذات مرة مرضت والدتي ولزمت البيت، وفوجئنا بوفد من الراهبات يزورها في البيت ، وفي ذلك اليوم حدث انقلاب في «شارع رضوان شكري» لأن الناس لم يروا مثل هذا المنظر من قبل، وكنت عندما أسالها عن حبها «للحسين» و«مار جرجس» في الوقت نفسه تقول: «كلهم بركة».. وتعتبرهم «سلسلة واحدة» كما لم يتردد محفوظ في حديثه عن والدته أن يقول: «.. أنني أجد في أمي عراقة وأصالة أكثر من سيدات هذا الجيل. والى جانب عشقها للآثار كانت مغرمة بسماع الأغاني ، خاصة أغاني سيد درويش، على الرغم من أن والدها الشيخ ابراهيم مصطفى كان شيخا أزهريا وله كتاب في النحو طبع في المطبعة الأهلية». والأم واسمها فاطمة نعرف عنها أيضا من كلمات محفوظ : .. لا أتذكر أنها ذهبت الى طبيب في يوم ما.. وظلت حتى حدود التسعين من عمرها تزور الحسين بشكل يومي.. كما أنها لم تنقطع عن زيارة أقاربنا. «ورغم أنها عاصرت ظهور التليفزيون فانه لم يدخل بيتها، بل لم تدخل السينما الا مرة واحدة، لمشاهدة فيلم «ظهور الاسلام» بعد أن وصل الى مسامعها أن من يشاهد هذا الفيلم يكون بمثابة من ذهب لأداء فريضة الحج، وبما أنها لم تتمكن من الحج ذهبت لمشاهدة الفيلم» وتحدث محفوظ أيضا وباسهاب في هذا الكتاب عن والده «عبد العزيز ابراهيم أحمد الباشا». أعرف من حديثه «مات والدي عام 1937 ولم يطلع على أولى رواياتي «عبث الأقدار». لقد قرأ لي بعض قصصي الأولى المنشورة في الصحف. وكان يشعر بسعادة غامرة عندما يقرأ اسمي على هذه القصص، ومع ذلك لم تكن اهتماماتي الأدبية تعنيه كثيرا..» ................ نعم الانسان عادة عدو ما يجهله هكذا نبهنا الأقدمون .. الا أن هذا ليس على الاطلاق مبررا له لكي ينشر جهله أو يبث عداوته. والأدهى بالطبع أن يتباهى بجهله .. وعدم تعرضه للمعرفة والادراك. بالتأكيد نجيب محفوظ بحياته وكلماته أضاف معاني كثيرة لحياتنا.. كما أنه حاول أن ينبنها الى كثير من كنوز في حياتنا وفي تراثنا المصري والانساني .. وسلط الأضواء على جوانب مجهولة عديدة في حياتنا وفي البشر من حولنا. رواياته بأصواتها وأصدائها بها درر لمن يعرف قيمتها ولمن يقرأ ولمن يتبين ما يقرأه .. ولمن يسعى للسمو والارتقاء بالنفس البشرية.