رغم المعاناة ، والألم ، والإرهاب الذي يختطف أرواح شبابنا .. فلذات أكبادنا ، مازالت مصر ولادة .. تتتفتح أزهار جديدة في بساتينها كل يوم .. أزهار ندية .. تشع نورانية وبهاء .. معجونة بجينات الأجداد : ذكاء فطري ونباهة وقدرة مذهلة على التفوق والإبداع .. تجد تلك الأزهار تترعرع في كل مجال .. تسقى بماء الحياة ، من خبرات الكبار المعلمين ، فتزهو وتزهر وتنمو لعنان السماء ، وعلى الأرض تنطلق بسرعة الصاروخ ، حتى تقف على بوابة العالمية ، تنتظر من يفتح لها الباب والشباك ، لتطل منهما على كل البشر.. في مشارق الأرض ومغاربها .. ترفع راية الوطن .. جيلًا وراء جيل . رنا عبد الوهاب .. زهرة ندية .. عازفة استعراضية من الدرجة الأولى ، تفتحت موهبتها ، ذات يومٍ ، في مسرح العرائس ، عندما كانت تقودها قدماها ، وهي طفلة صغيرة ، ذات الأعوام الثلاثة .. بصحبة أمها منى أبو العلا الموظفة بالمسرح .. تتركها ، طوال ساعات عملها ، أمام عروضه الشيَّقة ، فتسحرها أصوات الدمى ، وحكاياتهم الجميلة ، وتعيش في دنيا أخرى من السعادة ، مع أغانيهم الممتعة .. ترددها كل يوم خلف عرائسها المفضلة ، ومعها ، تؤدي برشاقة وبراءة ، كل استعراضاتهم ، حتى رسخت في وجدانها ، وتعلقت بحبها ، وحفظتها عن ظهر قلب ، تتغنى بها ، وترقص ، في كل مكان .. كل من يسمعها ويراها ، ينصت لها مبهورًا ، ويقف لها مشدودًا ، وكأنه يسمع مطربة استعراضية محترفة . وبحاسة الأم المصرية ووعيها ، لاحظت والدتها بريق الموهبة يلمع في عيونها ، فأخذتها سريعًا لتصقلها في ورشة المسرح القومي للأطفال ، على آيادٍ خبيرة ، وبالفعل انطلقت رنا ، حتى صارت موهبتها إبداعًا ، يلفت كل انتباه ، وبعين بصيرة ، أكملت الأم المسيرة ، لتبدأ البنت رحلة التعليم ، في معهد الكونسرفتوار بأكاديمية الفنون .. بستان الموسيقى الرحيب .. العامر بألوان وأشكال من أجمل الأزهار.. ليحتضن موهبتها ، ويرويها بماء الحياة : الموسيقى .. فعشقت بين جدرانه الأنغام الساحرة التي تسللت إلى عقلها وقلبها ، وسلمت مفتاح حبها لمعشوقها الكمان ، الذي اختارته من بين عشرات الاَلات ، ليكون لها ، ليس مجرد حبيب ، إنما أنيس حياة ، ورفيق مشوار يرسم إبداعاتها على درب الفن الطويل . وتوالت السنوات ، وهي تتدرج في المراحل الدراسية المختلفة ، مع أساتذة العزف المصريين المهرة ، تتلقفها يد خبيرة ، وتثريها ، لتسلمها إلى أخرى ، حتى وصلت إلى الصف السادس الابتدائي ، وقد نضجت الموهبة ، واستوت الزهرة على عودها ، على يد الخبير الروسي مارلس يونسخانوف ، الذي انبهر بها ، منذ رآها ، وآمن بموهبتها ، فتلقفها بالتدريب المكثف ، وفي كل مرة ، كان يشجعها ، ويحمسها ، ويلهب طاقتها ، حتى بلغت مراتب الاحتراف .. تعزف ببراعة أصعب الكونشيرتات لرواد الموسيقى الكلاسيكية : فيفالدي .. زايتس .. كولاي ... وغيرهم كثيرون. وقتها ، عادت من جديد ، روعة الأم ، لتتجسد في إصرارها على عبقرية ابنتها ، وإيمانها بها ، حينما لبت رغبة مدرسها الروسي الأثير ، الذي أضاف لها الكثير والكثير ، على أن تحمل كمانًا يليق بها وبموهبتها ، فألقت بأعباء الحياة خلف ظهرها ، واشترت لها الكمان الذي طالما حلمت به .. كمانًا إيطاليًّا فاخرًا ، من أغلى الماركات ، بستين ألف جنيه ، غير مبالية بثقلها ، لأنها أيقنت أنها تضع مالها في أرض خصبة ، كلما ارتوت ، أخرجت أينع الثمار . ومن هنا ، وضعت بنت النيل قدميها على سلم التألق ، وخطت أولى خطواتها ، بالعزف في دار الأوبرا المصرية ، لتنعقد الشفاه من الدهشة من فرط روعة أدائها ، وسلاسة عزفها ، ومنها إلى المركز الثقافي الروسي ، لتزداد تألقًا ونورًا ، وهي تبدع عزفًا مع من هم أكبر منها سنًا ، وتتبارى معهم ، وتتفوق ، وفي كل مرة تعود لمعهدها ، ومعها الشهادات التقديرية ، تزين صدرها ، الواحدة تلو الأخرى ، فيزيدها المعهد منها أكثر وأكثر ، حتى ظهر إبداعها للنور حينما عزفت ، كما لم تعزف من قبل ، بكل أحاسيسها الدافقة ، كونشيرتو لمندل ، في افتتاح المسرح القومي للطفل ، بعد تطويره ، أمام وزير الثقافة حلمي النمنم ، ورؤساء القطاعات ، وحشد جماهيري من الأسر ، فتبهرهم ، ليكرمها الوزير ، ويشد من أزرها ، وعندما تعود لمعهدها تجد في انتظارها أحلى مفاجأة : الصفحة الأخيرة بالأهرام ، معلقة وسامًا لها على جدرانه ، تحكي حكاية إبداعها ، وصورتها تزينها حينها فقط أيقنت رنا أنها قادرة على أن تسمع صوتها لكل العالم ، وتبدأ رحلة الشهرة .. ومازالت في انتظار قرار الوزير وتلك كانت قصة رنا .. حدوتة مصرية .. بدأت ولن تنتهي . [email protected] لمزيد من مقالات ياسر بهيج;