كان الزحام شديدًا فى الأتوبيس . وكانتْ حمولة الكتب على ذراعى ثقيلة. أنقذتنى إحدى السيدات. مدّتْ ذراعها وأخذتْ الكتب. بعد قليل خلا الكرسى المُلاصق لها. مكّنتنى من الجلوس بجوارها. شكرتها وأثنيتُ على معروفها، فسألتنى ((ما كل هذه الكتب ؟)) قلتُ ((روايات)) قالت ((أنا أقرأ فى علم النفس أكثر)) شدّتنى بساطتها فى الحديث، حيث سألتنى إنْ كان لى كتب من تأليفى؟ وسألتنى عن عمرى؟ وعندما قلتُ لها ((أنا فى الستين)) قالتْ ((ولكنك تبدو أصغر من ذلك بكثير)) تدفقتْ فى الحديث عن حياتها. وقالت إنها تعشق الفن التشكيلى. ولها محاولات فى الرسم. أشعرتنى بود عمره سنوات وليس لحظات. سألتها عن عمرها. قالت ((تفتكر أنا عندى كم سنة؟)) قلت (( أنتِ فى أوائل الأربعينيات على أكثر تقدير)) أشرق وجهها وقالت ((أنا تعديتُ الخمسين)) تردّد سؤال على لسانى، لا أدرى كيف التقطه عقلها. قالت ترد على سؤالى الذى لم أطرحه عليها ((وأنا لم أتزوج. وأرفض الزواج)) شجّعتنى على الحوار بين شخصيْن ناضجيْن. سألتها عن مشاعر الوحدة وعن العواطف الطبيعية. واحتياجات الروح والجسد. وحاجة الرجل للمرأة. وحاجة المرأة للرجل. وتكوين الأسرة. فاجأتنى بصراحة صادمة. قالت (( لم أشعر أبدًا أننى فى حاجة إلى رجل)) وعندما أبديتُ دهشتى أضافت ((وغريزة الجنس أحط غريزة)) ثمّ هاجمت سيجموند فرويد وتحليلاته عن الجنس. أدركتُ أنّ لا جدوى من الحوار معها . تضع السدود بعد أنْ أشعرتنى بالود . امرأة تنفتح فى الحديث مع رجل لا تعرفه ، ثم تُعلن أنها ضد قانون الطبيعة. تأملتُ وجهها علّنى أتمكن من فض غشاء غموضها. وجه فتاة فى الثلاثين، خمرى اللون. ومن عينيها الزيتونتيْن يشع بريق طفولى. وعلى رأسها (بونيه) أحمر تطل منه خصلات من شعرها الناعم. جمال وجهها. وجسدها الممشوق. واعتناؤها الفائق بملبسها، ضاعف من غموضها فى عينى. قرّبتْ وجهها من وجهى وقالت ((هل تصدق إذا قلتُ لكَ إنْ أنا خرجت من رحم أمى، ولكننى لم أخرج من رحم الحياة؟)) فاجأنى كلامها للمرة الثانية. بسرعة مذهلة كان عقلى يُعيد صياغة هذا البوح. قمعتُ الكثير من الكلمات على لسانى، واحتميتُ بالصمت. عندما اقتربتْ محطتى وهممتُ بالوقوف ، طلبتْ أرقام تليفوناتى . وكان طلبها المفاجأة الثالثة. وبينما هى تُخرج الموبايل كى تُسجّل الأرقام، تحرّكت السيارة. ارتفع صوتها وهى ترجو السائق أنْ يتمهل قليلا . استجاب الرجل لرجائها عن طيب خاطر. أمليتُ عليها الأرقام التى وردت على ذهنى. فى الطريق ، وأنا أملأ صدرى بالهواء ، شغلنى سؤال : هل أخطأتُ عندما تعمّدتُ أنْ أملى عليها الأرقام الخطأ ؟